وجهتها للقطاعات الاقتصادية الحيوية وبصفة خاصة القطاع السياحي في متحف باردو وفي نزل الإمبريال في سوسة عملت هذه المجموعات على القيام بنقلة نوعية والعمل على السيطرة على مناطق ميدانية لإقامة عليها ما سموه بالدولة الإسلامية.
وقد نجحت استراتيجية هذه المجموعات في سوريا والعراق ومكّنتها من السيطرة على مناطق هامة إلى يومنا هذا في هذين البلدين. وهذه الاستراتيجية تتمثل في تجميع قوات قتالية كبيرة العديد حول مدينة ثم هرسلة القوات النظامية في بعض المعارك في مناطق مختلفة يليها هجوم هام ومباغت دفع في عديد المناسبات القوات النظامية للانسحاب وفي بعض الأحيان للهروب في ظروف مشينة وترك المدينة مفتوحة ولقمة سائغة في أيادي المجموعات الإرهابية لتنكل بالناس العاديين وتعبث بآثارها وتراثها.
وكانت هجمة بن قردان إعادة لسيناريو خبرته وجربته المجموعة الإرهابية عديد المرات. فقد جمعت قواتها أو مقاتليها في مدينة صبراتة التي لا تبعد كثيرا على الحدود التونسية. ثم قامت بإدخال كميات هامة من السلاح منذ أشهر وتخزينه في نقاط مختلفة من المدينة قبل المرور إلى الهجوم المباغت. وقد يكون وقع الإسراع في توقيت هذا الهجوم بعد استهداف مقرات هذه المجموعات في صبراتة من قبل الطيران الأمريكي وإيقاع إصابات هامة فيها. إلا أنه ما من مرة تسلم الجرة فقد تفاجأت المجموعات الإرهابية بردة فعل عنيفة ولم تكن تتوقعها من قبل مختلف قواتنا وفي مختلف المناطق والمواقع التي تمت مهاجمتها فعوضا عن الانسحاب والهروب الذي سيمكن هذه المجموعات من السيطرة على المدينة وإقامة ما سموه بالإمارة الإسلامية قامت قواتنا المختلفة بردة قوية وعنيفة مكنتها لا فقط من صد العدوان بل من إيقاع أكبر هزيمة ميدانية عرفتها مجموعات داعش منذ سنوات.
فمنذ انطلاق عملياتها لم تعرف هذه المجموعات إلا الانتصارات والتي ساعدتها في بناء أسطورتها خاصة لدى الشباب والظهور بمظهر القوة التي لا تُقهر ولا ترد.
وقد وصلت هذه الأسطورة إلى درجة أن الجيوش النظامية وحتى البلدان المتقدمة منها والتي تتمتع بترسانة عسكرية هامة أصبحت تتفادى بعث جنود وقوات على الأرض وتكتفي بالغارات الجوية والتي أوقعت عديد الضحايا بين المواطنين العزّل دون أن تحد من الطاقة القتالية لهذه المجموعات.
من هذا المنظار تعتبر معركة بن قردان هامة باعتبارها حطمت أسطورة القوة العسكرية التي لا تقهر لداعش الإرهابي وستشجع عديد الجيوش النظامية لمواجهة هذه المجموعات والتصدي لها. ومنذ اليوم الأول للمواجهة والانتصار الساحق الذي حققته قواتنا منذ الساعات الأولى للقتال برز السؤال حول ظروف والعوامل التي ساهمت في هذه الهزيمة الهامة لهذه المجموعات وفي تقديري لا بد من الإشارة إلى أربعة عوامل هامة لعبت دورا أساسيا في هذه المعركة وحكمت على المجموعات الإرهابية بالهزيمة والتقهقر. العامل الأول هو عودة الثقة لقواتنا الأمنية والعسكرية والتي اهتزت كثيرا بعد الثورة. فقد اعتبر العديد من الناس أن هذه القوات والأمنية منها كانت الأداة التي مكنت الاستبداد من الهيمنة بكل كلاكله على البلد والهيمنة على كل مفاصل الدولة. ونتذكر كيف أن هذه القوات انسحبت أيام الثورة خوفا من ردة فعل المواطنين تاركة لهم حماية المدن ولم ترجع هذه القوات إلا بعد أشهر وبطريقة تدريجية للحفاظ على النظام العام.
وبالرغم من هذا الرجوع فإن ثقتها في نفسها بقيت مهتزة وتواصل نقد المواطنين لها وفي بعض الأحيان رفض سلطتها وقد عملنا من 2014 على تجاوز هذا التحدي وإعادة الثقة في قواتنا وفي قدرتها على حماية الوطن من خلال بناء علاقة جديدة مع المواطنين تعتمد على مبادئ الأمن الجمهوري والذي يعمل أساسا على حماية المواطنين واحترام القانون بغض النظر عن النظام السياسي أو القوى السياسية التي تحكم البلاد. وقد بدأت هذه الثقة في الرجوع بصفة تدريجية وقد ساهم في هذا المسار تطور نظرة المواطنين إلى القوى الأمنية والعسكرية واستعدادهم لطي صفحة الماضي وبناء علاقة جديدة قوامها الاحترام المتبادل واحترام القانون. وقد لعب هذا العامل دورا كبيرا في تنمية قدرات المؤسسة الأمنية والعسكرية ولا يقتصر تأثير هذا العامل على الجانب النفسي وفي دعم الروح المعنوية لرجال الأمن ولجنودنا بل دور هام على المستوى العملي. فقد كان للمواطنين دور هام في مد الأمن بالمعلومات الضرورية وكانوا بالتالي عينا ساهرة لتتبع كل التحركات المشبوهة والتبليغ عنها. وقد أثبتت عديد التقارير أن عديد العمليات الناجحة لقواتنا الأمنية كانت وراءها معلومات استخباراتية قادمة من مواطنين عاديين وقد تطورت هذه العلاقة بعد أن أصبحت قوات الأمن تنشر صور الإرهابيين الملاحقين وتدعو المواطنين للإبلاغ عنهم.
العامل الثالث الذي كان وراء إنجاح هذه العملية مرتبط بتنامي العمل التنسيقي بين مختلف الأجهزة والقوات الأمنية وقد كان هذا التنسيق ضعيفا إن لم نقل غير موجود. وقد ساهم من خلال عديد المؤسسات التي وقع إيجادها في دعم وتقوية طاقات وجاهزية المؤسسة الأمنية والعسكرية. وقد أشارت عديد التقارير الأمنية أن الوصول السريع للتعزيزات لمدينة بن قردان في الساعات الأولى للهجوم قد ساهم في إفشال مخطط المجموعات الإرهابية وإلحاق الهزيمة بها.
أما العامل الرابع والذي لعب دورا كبيرا في نجاح قواتنا العسكرية في دحر هذا الهجوم فهو العمل الهام الذي قامت به الدولة التونسية لتوفير التجهيزات العسكرية الضرورية لقواتنا الأمنية والعسكرية لتحسين طاقاتها القتالية وتأهيل جنودنا لمواجهة التحدي الإرهابي. وهنا نود الإشارة أن قواتنا لم تكن لها التجهيزات الضرورية والمعدات الخاصة بهذا النوع من المواجهات مما يفسر ضخامة الخسائر في بداية المواجهات في سنة 2013. إلا أن الدولة ومختلف الحكومات قامت بتخصيص وتوفير الأموال الضرورية لاقتناء أحدث المعدات من أجل تحسين الطاقة القتالية لجنودنا. وقد بدأت هذه التجهيزات تعطي أكلها وتحسن من جاهزية قواتنا في هذه المواجهات.
إذن شكلت هذه العوامل من إعادة الثقة لدى المؤسسة الأمنية والعسكرية وارتفاع مستوى التنسيق بينها وتحسين جاهزيتها وتنامي الدعم الشعبي لها عناصر جديدة وعوامل قوة مكنت قواتنا من التصدي بقوة لهذا الهجوم الإرهابي وإلحاق أهم هزيمة عسكرية ميدانية بما يسمى بقوات الدولة الإسلامية.
تمكنت قواتنا من إلحاق هزيمة سيكون لها تأثير استراتيجي في مواجهاتنا مع المجموعات الإرهابية ولا بد لنا أن نجعل من الانتصار في هذه المعركة نقطة انطلاق لننتصر في حربنا على الإرهاب. وهذا يتطلب في رأيي أربعة شروط أساسية يجب توفيرها: الشرط الأول وهو سياسي ويتطلب مواصلة دعم وبناء الجبهة الداخلية المناهضة للإرهاب في بلادنا فيجب أن يكون شعار كل القوى السياسية أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة مع المجموعات الإرهابية وللعودة قليلا إلى الوراء فقد أثبتت التجربة التونسية أن المجموعات الإرهابية استفادت كثيرا من الاختلافات التي شقت الساحة السياسية التونسية للتغلغل في المجتمع والوصول حتى بعض مفاصل الدولة. إن تنامي التحدي الإرهابي ومروره إلى مرحلة نوعية جديدة يتطلب أكثر من أي وقت مضى جبهة داخلية موحدة وصمّاء تحارب الإرهاب دون هوادة وهدفها إقصاؤه نهائيا من الساحة السياسية.
أما الشرط الثاني لكسب الحرب ضد الإرهاب فهو مواصلة دعم المؤسسة الأمنية والعسكرية في تنمية قدراتها القتالية من خلال دعم التنسيق بين مختلف الأجهزة ومواصلة برنامج اقتناء التجهيزات العسكرية وتأهيل قواتنا. إن هذه القدرات القتالية ستمكن قواتنا كما شاهدناه في الأسابيع الأخيرة من التكثيف من عملياتها الهجومية الاستباقية وهرسلة المجموعات الإرهابية وجعلها غير قادرة على التركيز والإعداد لضربات إرهابية جديدة.
أما الجانب الثالث في هذه الاسترايتجية فهو يهم الجوانب الثقافية والتربوية والدينية في مواجهة الخطر الإرهابي لقد أكدنا عديد المرات أن الحرب على الإرهاب لا يمكن لها أن تقف على الجوانب الأمنية والعسكرية بل يجب علينا أن نضبط استراتيجية شاملة لاجتثاث هذا الغول وأسسه الفكرية والثقافية والدينية في مجتمعاتنا. ولعل تنامي الخطر الإرهابي في الأشهر الأخيرة جعل التركيز على الجانب الأمني مع إهمال الجوانب الأخرى إن تنامي قدراتنا القتالية والانتصارات التي حققتها قواتنا يجب أن تدفعنا إلى دعم وإعطاء الأولوية إلى الجوانب الأخرى من خلال دعم ثقافة التعدد والتفتح ورفض المطلق واحترام الآخر لدى شبابنا لدحر الفكر المنغلق والمتزمت والرافض للآخر والذي يشكل التربة الخصبة التي يترعرع فيها الفكر التكفيري.
أما الشرط الرابع فيخص الحد من التهميش الاجتماعي والبطالة واللذين دفعا بالآلاف من الشباب في أيادي تجّار الموت وجعلاهما لقمة سائغة تمكنت المجموعات الإرهابية من تجنيدها وجعلها وقود حرب هم غرباء عنها. إن بلداننا مازالت تشكو من غياب البرامج الاقتصادية والاجتماعية القادرة على دعم الاندماج الاجتماعي ودرء التهميش والبطالة مما عمّق اليأس عند آلاف الشباب. لقد حان الوقت للخروج من النمو الرديء والهشاشة الاقتصادية والاجتماعية والارتقاء إلى مستويات نمو عالية وتنمية شاملة تفتح الآفاق وتعيد الأمل للجهات والشباب المهمش. فالتغيير والتحول الاقتصادي يشكل في رأينا أهم ضمان وداعم لتحول سياسي ديمقراطي سلمي.
إن معركة بن قردان والانتصار الساحق لقواتنا شكل ضربة قاصمة للمجموعات الإرهابية سنشاهد آثارها في الحرب على الإرهاب في الأيام القادمة وهذا الانتصار لم يكن وليد صدفة بل كان نتيجة عمل متواصل ودؤوب لتقوية قواتنا الأمنية والعسكرية ودعم جاهزيتها ولا بد لهذا العمل أن يتواصل على المستوى السياسي والأمني والتربوي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي ليتحول هذا الكسب إلى انتصار في حربنا على الإرهاب تدعم التحول الديمقراطي وتفتح الآفاق لتجربة سياسية جديدة في بلادنا عمادها الحرية والديمقراطية والتعدد.