مشروع قانون المالية وأوهام المخيال الجماعي التونسي: وتتواصل معركة الجباية..

تعيش تونس هذه الأيام مناخات تشبه ما حصل في بلادنا منذ أكثر من 150 عاما عندما انتفضت جموع غفيرة من التونسيين تحت قيادة علي بن غذاهم بعد أن قرر محمد الصادق باي مضاعفة «ضريبة الإعانة» من 36 ريالا إلى 72 ريالا...

فاليوم نشهد «انتفاضات» متزامنة لقطاعات مختلفة من المهن المطالبة بالضريبة ضد مشروع قانون المالية لسنة 2017 المتهم بأقذع النعوت من اللاوطنية إلى اللادستورية إلى الغطرسة إلى الحيف وتتعالى أصوات من مختلف هذه «القبائل» العصرية تنادي بـــ«تمرّد جبائي» وبـــ«عصيان» ضريبي...

لا شك أن الفوارق كثيرة بين ما جدّ في البلاد سنة 1864 وما يحصل الآن منها أننا لم نعد – نظريا على الأقل – في نظام يرسل «الصبايحية» لافتكاك أرزاق الناس بقوة السلاح وأن «القبائل» العصرية لا ولن تعمد إلى القوة المادية للاحتجاج على غطرسة «المركز» وأنه لم يعد هناك مخزن (مركز الحكم) وسيبا (أطراف البلاد) و.....و.... ولكن يبقى شيء مشترك في المخيال الجماعي بين تلك الفترتين: الضريبة هي انتزاع المال الخاص الشرعي بالقوة الغاشمة للدولة غير الشرعية. وبقي كذلك في مخيالنا الجماعي أننا شعب نرزح ونئنّ تحت نير الجباية الظالمة في حين أن الآخرين (من هم؟) ينعمون بالخيرات وهم دون مساءلة أو محاسبة...

قلنا وكررنا خلال هذه الأيام الأخيرة أن كل هذا «المخيال الجماعي» مبني على أوهام لا تصمد أمام أيّة حقيقة، إحصائية أو علمية فلا تونس رازحة تحت نير الجباية مقارنة حتى بالبلدان الشبيهة لنا كالمغرب الأقصى فما بالك ببلدان أوروبا الغربية التي يبلغ متوسط الضغط الضريبي العام (أي الجباية مع اقتطاع المساهمات الاجتماعية من الناتج الإجمالي الداخلي) حوالي 40 % بينما لا يتجاوز عندنا 27,5 % وفق فرضية مشروع قانون المالية لسنة 2017 حيث يكون الضغط الجبائي الصرف في حدود 22,1 % يضاف إليه 5,4 % بعنوان كل المساهمات الاجتماعية في القطاعين العام والخاص..

وبالنظر إلى نسب الضرائب على الدخل وعلى الشركات يمكن أن نقول بأن القطاع المنظم لوحده يشهد تهربا ضريبيا يمكن أن نقدره بما لا يقل عن 6 أو 7 مليار دينار أي حوالي ما نحتاجه من اقتراض إضافي كل سنة...
بعبارة أخرى لو دفع كل المطالبين بالضريبة في القطاع المنظم ما هم مطالبون به وفق التشريعات الحالية لما احتاجت الدولة التونسية إلى التداين.
هذه هي الحقيقة المرة التي ينبغي أن نقرّ بها لو رمنا فعلا إصلاح هذه البلاد...

الثورة جميلة فعلا وأجمل ما فيها أنها تضعنا أمام صورتنا الفعلية دون مساحيق.. فنحن نطالب جميعا بالحرية والعدالة والديمقراطية وبالدولة العصرية ولكن كل «القبائل» المكونة لتونس اليوم تطالب بأن يبدأ الإصلاح بغيرها لا بها...
وبعض هذه «القبائل» يقول كلاما منطقيا في ظاهره: المال موجود في الاقتصاد الموازي وفي التهريب فخذوه من مظانه هذه...

كلام جميل ولكن هل يعني هذا أنه يحق لـــ«قبيلة» ما أن تمتنع عن دفع واجبها القانوني من الجباية؟ هل أن أباطرة التهريب تبرر – بوجودهم – عملية التهرب الجبائي واسعة النطاق في قطاعات عديدة من الاقتصاد المنظم؟ !
أليس أفضل هدية نقدمها للتهريب أن نتهرب كليا أو جزئيا من واجبنا الضريبي؟ !

وكيف نفسّر في سنة 2014 وفق الأرقام التي قدمتها الهيئة الوطنية للمحامين – أن لا يقوم بالتصريح على الدخل أكثر من 40 % من المحامين المسجلين؟ ! أي أن 40 % من قطاع منظم هم في حقيقة الأمر ينتمون للقطاع الاقتصادي الموازي...
وما نقوله عن المحامين يصدق على عدة مهن أخرى...

لا بد أن نصارح أنفسنا جميعا بالحقيقة: كيف نريد بناء دولة عصرية ذات خدمات عمومية راقية علاوة على قيامها بمهامها السيادية من حفظ الأمن والحدود ومحاربة الإرهاب والجريمة المنظمة والجرائم بأنواعها مع توفير التعليم والصحة والنقل والبنية التحتية و...و...و... دون أن يقوم المواطنون كلهم – باستثناء ضعاف الحال – بدفع الضرائب وفق ما يقتضيه القانون؟!

ولكي تتفصّى بعض «القبائل» من هذا الواجب المواطني الأساسي تراها تشير وتشهّر بالتهريب والفساد و.... و... وكأنها لا تدرك أن التهرب الضريبي الجزئي أو الكلي هو تهريب كذلك وفساد أيضا؟!

نكرر ونذكر كل المواطنين أن الضريبة المستوجبة على المهن الحرة غير التجارية هي ضريبة على الدخل بالنسبة للأشخاص الطبيعيين وهذه الضريبة لا تحتسب إلا على الأرباح المصرّح بها وهي ضريبة تصاعدية وفق تنامي الدخل وهي مفروضة على كل شخص طبيعي منذ عشرات السنين في تونس ولم يأت بها مشروع قانون المالية الجديد وأنه لا وجود لأي ترفيع من أي صنف كان في نسب الضرائب المستوجبة بمقتضى القانون على الأشخاص الطبيعيين فلِمَ الزجّ بالبلاد في حرب «قبلية» جديدة واللعب على الأوتار العاطفية من صنف أنّ هذه المهنة أو غيرها «مستهدفة» و«مشيْطنة»؟.
لنتأكد جميعا بأن الدولة التونسية (ونحن لا نتحدث هنا عن حكومة بعينها) لن تتمكن من محاربة الفساد ومن التقليص الهام من حجم الاقتصاد الموازي ومن تقديم الخدمات العمومية لسائر المواطنين ومن تنمية الجهات الداخلية ومن إصلاح حقيقي لكل منظوماتها ولحوكمتها ما

لم يقم كل المواطنين والمؤسسات المشتغلين في القطاع المنظم بواجبهم الضريبي بصفة شفافة وكاملة وعندها نفتح كل هذه الملفات الضخمة دون أن نكون تحت وطأة دين خارجي جنوني أو عجز مزمن لميزانية الدولة..
عندما تهدأ النفوس ويبتعد الجميع عن الاتهامات والاتهامات المضادة عندها يمكن أن نناقش كل شيء كنوع الضريبة الملائمة لكل المهن الحرة مثلا وكيفية تشجيع الوافدين الجدد عليها عن طريق الإعفاء الجبائي لسنوات معلومة... كل هذا وفق نص الدستور وفلسفته في إرساء الجباية العادلة...

أما منطق أدفع ما أريد دون إعطاء الدولة إمكانية المراقبة فهذا منطق لن يقبل به التونسيون مهما علت الأصوات هنا أو هناك...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115