أدباء في القلب والذاكرة: محمد السعيد الخلصي شاعر العواطف الجياشة (1898 /1962)

لم ينل هذا الشاعر حظه من الدراسة والعناية بشعره رغم أنه شاعر مجيد وقد عرف في حياته تقلبات عدة فقد درس في تونس وفي باريس ثم في المغرب التي عاش فيها 26 عاما حيث عمل محاميا في الدار البيضاء وقبل الرحيل إلى المغرب عمل في الحقل الصحفي

وبعد العودة من المغرب عمل رئيسا لديوان الوزير الأول آنذاك مصطفى الكعاك.
ولد الشاعر محمد السعيد بن حميدة الخلصي يوم 12 فيفري 1898 في العاصمة تونس حسب ما أوردته ابنته سعاد الخلصي في الكتاب الذي تولت إصداره في عام 1990 تحت عنوان «محمد السعيد الخلصي شاعر العاطفة» أما أبو القاسم محمد كرو فقد اعتبره في كتابه «حصاد العمر (شعراء منسيون) «من مواليد سنة 1896 بمدينة تونس في عائلة ذات مجد عريض وعراقة في العلم والتصوف خاصة من جهة أمه حفيدة العلامة الشهير إبراهيم الرياحي.
واعتبره المنصف شرف الدين من مواليد سنة 1898 في كتابه (من رواد المسرح التونسي وأعلامه الصادر عن منشورات المكتبة العتيقة بتونس دون الإشارة إلى تاريخ الطباعة وقد أشار في هذا الكتاب أيضا إلى الأغاني التي كتب كلماتها الشاعر محمد السعيد الخلصي.
أما عثمان اليحياوي في كتابه «شعراء منسيون من ولاية «سليانة الصادر سنة 2010 على ثقة صاحبه فذهب إلى أن هذا الشاعر تعود جذوره الأولى إلى جهة سليانة وتحديدا إلى عمادة (منطقة) الخلصة. في تونس التي جاء فيها إلى هذه الدنيا تعلم محمد السعيد الخلصي في كتّاب الحي بالمدينة العتيقة أما تعليمه الابتدائي فكان في المدرسة العرفانية وتلقى تعليمه الثانوي في معهد كارنو وعندما أحرز شهادة الباكالوريا كان قد فقد أباه فأوفدته العائلة إلى باريس لدراسة الحقوق لكنه انصرف إلى حياة حرة قوامها اللهو ولم يكمل دراسته في الحقوق حيث عاد إلى تونس سنة 1920 لما علم بوفاة أمه.

هذه العودة إلى تونس خولت له الانضمام إلى جمعية قدماء الصادقية حيث أصبح عضوا نشيطا فيها وغدا حريصا على الحضور في المجالس الأدبية في تونس آنذاك سواء تلك التي كانت تعقد في جمعية قدماء الصادقية او تلك التي كانت تعقد في الصالون الأدبي للشاعر مصطفى آغا. وفي الأثناء تولى سعيد الخلصي إدارة تحرير مجلة الصادقية التي لم يصدر منها سوى عددين ظهر فيهما أدبه وترجماته حيث كان معجبا بالأدباء الفرنسيين لتلك الفترة على غرار هيقو ولا مرتين وألكسندر دوماس.
وجاء في كتاب «محمد السعيد الخلصي شاعر العاطفة» أنه كان قد بدأ في التأليف ونظم الشعر تحت اسم خفيّ ولكن سرعان ما انكشفت شخصيته وبدأ الكل في اختطاف ما تجود به قريحته من نثر وشعر.. ومن أجل شهرته انخرط في النادي الأدبي التونسي». دون إشارة إلى المكان والتاريخ والمواعيد وأسماء الذين كانوا يترددون على هذا النادي.

وتضيف ابنته في كتابها سالف الذكر ما يلي: «وبعد تأكدت شهرته كشاعر أصيل أبدى موهبته كمترجم وكمؤلف في تحرير الوثائق التي ستساعد «البارون درلنجي» على إعداد تأليفه حول تاريخ الموسيقى العربية».

ويبدو أن سعيد الخلصي تعرّف في خضم هذا النشاط الثقافي على الفنانة الشهيرة آنذاك حبيبة مسيكة ولعل الأستاذ أحمد الحمروني في كتابه عن هذه الفنانة اليهودية التونسية قد تعرض إلى التفاصيل. هذا التعرف أثمر علاقة حب من جهة واحدة خصوصا أن سعيد الخلصي سافر سنة 1921 إلى المغرب حيث عمل في مجال الترجمة وواصل في الأثناء دراسته في الحقوق التي لم يكملها في باريس وفي عام 1924 تحصل من الجامعة في مدينة الدار البيضاء على شهادة الإجازة في الحقوق ليعمل هناك محاميا... وقد كان محاميا ناجحا دون أن يثنيه ذلك عن نشر إنتاجه الأدبي في الصحف والمجلات في كل من تونس والمغرب وخاصة في مدينة الدار البيضاء التي مكث فيها سعيد الخلصي فترة طويلة.

وفي عام 1930 توفيت المرأة التي تعلّق بها حيث عمد أحد عشاق الفنانة حبيبة مسيكة إلى قتلها حرقا بعد أن سكب عليها البنزين وأضرم النار فيها وهي نائمة.. الخبر أثّر فيه ورحيل حبيبة مسيكة أيضا فكتب قصيدة رثائية بعنوان (رثاء مغنية حسناء قتلت حرقا) أمضاها باسم (سعيد...) دون ذكر لقبه وتولت نشرها جريدة النهضة – في تونس – بتاريخ 29 مارس 1930 وقد كانت هذه الجريدة أعلنت عن الخبر ونشرت صورة للفنانة حبيبة مسيكة ولمحرقها في عددها الصادر يوم 22 مارس 1930 كما نشرت وصية حبيبة مسيكة في عددها الصادر يوم 27 مارس. المهم أن هذه القصيدة كانت سببا في اندلاع خصومة أدبية بين شاعرين من شعراء تونس هما حسين الجزيري (1894 /1974) وسعيد أبو بكر (1899 /1948) حيث ذهب في ظن الجزيري أن سعيد أبو بكر هو صاحب المرثية... هذه الخصومة الأدبية نقلتها بعض الصحف الصادرة آنذاك.

وبموت هذه الفنانة يبدو أن سعيد الخلصي أغلق ملف حبه لها نهائيا حيث عاد إلى تونس سنة 1931 ليتزوج وقد جاء في كتاب ابنته سالف الذكر أن والدها تزوج في أول شهر من سنة 1931 ابنة شيخ المدينة (شيخ مدينة تونس وهي طبعا والدتها) ثم عاد إلى الدار البيضاء لمواصلة عمله هناك في سلك المحاماة.

وعقب انتهاء الحرب العالمية الثانية (1939 /1945) عاد سعيد الخلصي إلى تونس حيث تم تكليفه بمهمة سامية في ديوان الوزير الأول مصطفى الكعاك وذلك خلال الفترة الممتدة من 1947 إلى سنة 1950.
أما بخصوص إنتاجه الشعري والأدبي عامة فقد تولى ترجمة عديد القصائد الشعرية للشاعر الفرنسي لامرتين (1790 /1869) الذي يعتبر زعيم المدرسة الرومنطقية الفرنسية. إضافة إلى نشره لإنتاجه الشعري الخاص به على غرار قصيدته في رثاء الشاعر «أبو

العلاء المعري» بمناسبة ذكراه الألفية وقد تولت مجلة الثريا آنذاك نشر كل القصائد التي قيلت بهذه المناسبة وله في هذه المجلة عديد القصائد من ذلك على سبيل المثال قصيدة بعنوان (على شاطئ البحر) في العدد الصادر خلال شهر جويلية عام 1944 وله حتى قبل هذا التاريخ إنتاج أدبي منشور على صفحات هذه المجلة من ذلك قصيدته (الشكوى) في العدد الصادر خلال شهر مارس عام 1930 بالإضافة إلى أنه تولى نشر شعره وأدبه في مجلة العالم الأدبي وفي المجلة الصادقية إبّان إشرافه على إدارة تحريرها. وله إنتاج منشور هنا وهناك في الصحف والمجلات الصادرة خلال النصف الأول من القرن الماضي وخاصة في جريدتي الزهرة والنهضة.

ولئن تولت ابنته في التسعينات جمع قسم من شعره وأدبه في الكتاب الذي تولت إصداره فإن ذلك لا يعني أنها جمعت كل ما كتبه ونشره والدها. يقول الأستاذ أبو القاسم محمد كرو في كتابه (حصاد العمر) قسم (أعلام منسيون) في هذا الخصوص (تولت ابنة سعيد الخلصي جمع قسم من شعر والدها وأدبه وأصدرته في كتاب بدون دراسة لائقة ولا جمع كامل لأعماله – ص 377).

ولكننا نعتبر ذلك أفضل من أن تبقي ما جادت به قريحة أبيها في طي النسيان فها قد مضى على مبادرتها أكثر من ربع قرن من الزمن ولم يصدر كتاب آخر حول هذا الشاعر وتجربته والحال أن هذه مسؤولية المؤسسات الثقافية في بلادنا على غرار بيت الشعر.
وتضيف سعاد الخلصي في مقدمة كتابها «محمد السعيد الخلصي شاعر العاطفة» ما يلي: و»في سنة 1953 اعتراه مرض استوجب نقله إلى باريس أين أجريت عليه عملية جراحية فقد إثرها صوته ولكن المرض أدى به أخيرا إلى الأجل المحتوم وذلك يوم 23 ديسمبر 1962». لتكون مقبرة الزلاج هي مثواه الأخير.

أما بخصوص شعره المدرج في الكتاب سالف الذكر فقد ورد دون إثبات البحر الذي عليه نظمت كل قصيدة كما لم تقع الإشارة إلى القصائد المنشورة والقصائد المخطوطة.

يقول الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور عن شعر سعيد الخلصي «لقد كان حسّه المرهف وذوقه الرقيق وحياته المأخوذة بروعة الجمال والفن والمتعة دافعة به إلى التعلق بغراميات هيغو ولامرتين وموسّي وتفننهم في التشبيب والنسيب والغزل والوصف الطبيعي فبدأ افتتانه بتلك الطريقة يوجه شاعريته بروائع في قصائده حذوهم ويقتبس عنهم فصار يأتي بروائع ساحرة من الأوصاف الطبيعية والغزلية وتصاوير إحساس الغرام والانفعالات النفسية الجميلة من حياة المرح والمتعة وساعات الأنس».

مراجع حوله
• مجمل تاريخ الأدب التونسي/ حسن حسني عبد الوهاب
• محمد السعيد الخلصي شاعر العاطفة/ سعاد الخلصي
• من وراء المسرح التونسي وأعلامه/ المنصف شرف الدين
• حصاد العمر: شعراء منسيون/ أبو القاسم محمد كرو
• شعراء منسيون من ولاية سليانة/عثمان اليحياوي (ط1/2010) على نفقة للمؤلف

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115