فن العرائس مطية للنقد وطرح اسئلة عن الوطن والسياسة والمجتمع واكثر الاسئلة قلقا ماذا لو كنا جميعنا عميان؟ كيف سنتعايش مع فكرة العمى؟ هل نقبل المختلف ام نلفظه؟ وكما الفرق بين اعمى البصر واعمى البصيرة؟ واسئلة عديدة طرحها محمد منير العرقي صحبة جيش من الممثلين العرائسيين في مسرحية "ما يراوش".
"مايراوش" تمثيل وتحريك هيثم وناسي، فاطمة الزهراء المرواني، أسامة الماكني، هناء الوسلاتي، أسامة الحنايني، ضياء المنصوري ،إيهاب بن رمضان. ، أميمة المجادي، محمد الطاهر العابد، عبد السلام الجمل، ساعد في الاخراج صبري عبد اللاوي وسينوغرافيا لحسان السلامي، اشرف على ورشة صنع العرائس الاسعد المحواشي وصممها الفنان عبد السلام الجمل، نحت ملامح العروسة ياسين بشر والكوريغرافيا لحافظ زليط وتقني اضاءة امين الشورابي موسيقى اسامة مهيدي..
الممثل صانع الفرجة والجمال في انسجامه مع السينوغرافيا
"ما يراوش" منذ العنوان يحيل المخرج جمهوره الى مفهوم "العمى" ومع تقدم أحداث المسرحية يكتشف المتلقي أن جميع الشخصيان عميان، يعيشون في مجموعة يقودهم شيخ اعمى هو الاخر، عصيّهم او "صولجاناتهم" هي دليلهم الوحيد لمعرفة المكان وخصوصياته (اعطيوني صولجاني وخوذو البلاد).
العنوان عتبة العمل وله اكثر من تأويل فمن هم الذين "ما يراوش" شخصيات المسرحية ام جمهورها خاصة وانّ اضاءة العمل تتغير فتعتم فضاء لعب الممثلين وتضيء بقية القاعة اين يجلس الجمهور، عملية تبادل للأمكنة عبر تقنية الاضاءة وكاننا بالمخرج يجبر جمهوره على المشاركة في العمل واتهامه انه ايضا لا يرى.
"مايراوش" مسرحية عرائسية للكهول، عمل يتماهى فيه العرائسي مع عروسته ويذوب مع ملامحها وحركاتها فقط الصوت يبقى لصاحبه، تماهي مطلق بين الفنان وعروسته، يعطيها الكثير من روحه وأفكاره فتبدو العروسة كانها شخص حقيقي، متقنة الصنع والملامح والتفاصيل.
بين الممثل والعروسة حكاية شغف وانسجام يبدع فيها الممثلين، فتصبح العروسة هي الكيان الابداعي والتمثيلي وينسى المتلقي من خلفها ومن يحركّها، عمل ناقد، والمسرحية تتماهى مع فكرة المشرحة، جميع الشخصيات توضع على طاولة التشريح وكل تبوح بوجعها والسبب الذي دفعها الى العمى الاضطراري او الاختياري، كل ذاك الألم الذي ستبوح به الشخصيات يعاد صياغته عبر نوتات موسيقية ابدع فيها اسامة مهيدي فيتماهى اداء الممثل وحركة العروسة مع الايقاعات الموسيقية ليزعزعوا كيان المتلقي ويدفعونه الى مرآة ذاته وحقيقته.
تتفرع عناصر الابداع في مسرحية "مايراوش" أولها الدقة في صنع العروسة وهو يحسب لفناني المركز الوطني لفن العرائس، ثانيها التماهي بين المحرك وعروسته، تطغى حركة العروسة على ذات الممثل المحرّك، كما تصنع الموسيقى المناخات الدرامية للاحداث وتكون وسيلة المتلقي لفهم نفسية الشخصيات وكذلك دليل الشخصية لاكتشاف الفضاء المكاني والزماني الذي يوجدون به ويتحركون فيه، فالموسيقى جزء من اللعبة المسرحية، تنسجم مع حركة الممثل والنص المنطوق.
تتفاعل عناصر السينوغرافيا مع فضاء الحدث وقاعة العرض ايضا، استعمال لتقنية الفيديو "مابينغ" لإبراز خلفية الركح بطريقة مختلفة، مع الموسيقى الصاخبة وصوت الريح وديكور يعايش لحظات المسرحية وانفعالات الشخصيات، فتصبح السينوغرافيا في المسرحية وسيلة لفهم العمل وتفكيك شيفراته الكثيرة التي يمررها المحركين بين منطوق وحركة جسدية موغلة في الصدق.
في العمل تصنع السينوغرافيا ملامح الحكاية، عمل دائري كما الحياة ينطلق بعملية ضرب العصا على الارضية لتصنع موسيقى جد مميزة كانها رحلة في دواخل الذات البشرية وربما محاولة لاكتشاف أغوار القلب وأسراره ونفس المشهد يكون نهاية العمل، رحلة بحث عن الحقيقة تبدأ من تجلي الذات وتعرّيها من كل معيقاتها تماما كما يتعرّى الأعمى من نور البصر ويتجلى بصدق في عالم الظلمة.
المسرح مساحة للنقد والبوح بالحقيقة
مسرحية تلتزم بالدفاع عن حقوق الأقليات، والفئة الأكثر هشاشة في مجتمعاتنا، فاقدي البصر يكونون وسيلة لنقد منظومة اجتماعية وأخلاقية مهترئة، نقد يبيحه الركح وتكون روح الممثل وجسد العروسة المطية للوصول الى مساحة من الحرية.
على الركح تنقد الأفكار البالية في التعامل مع المرأة وتعنيفها، تنقد علاقات التصدع بين أفراد المجموعة الواحدة للحصول على منصب "الشيخ" او السيادة، ينقدون التدين الظاهري والصراعات الدائمة لنجاح الأنا على حساب المجموعة، نقد لظاهرة الفردانية والأنانية التي باتت منتشرة في المجتمع التونسي من خلال شخصيات تتداخل حكاياتها وهمومها وأفكارها في مكان ضيق يعيشون به منذ ان أصبحوا عميانا.
"مايراوش" وسؤال عن العمى؟ هل نحن حقا مبصرون؟ ام اننا عميان باختيارنا؟ أليس الصمت على ضحايا الاغتصاب من القاصرات عمى؟ أليس السكوت على ضياع حقوق وبصر ضحايا الرش بسليانة عمى؟ أليس الخمول امام أزمة البلاد المجتمعية والصراعات الفردانية لاجل السلطة عمى؟ الا يعتبر صمت المواطنين على انتهاكات السياسيين وصراعاتهم الحزبية لاعوام عمى؟ الا يعدّ صمت التونسيين امام انتشار الفساد والعنف في الشارع عمى؟ اليس عمى البصيرة وكتم صوت الحقيقة اشد ظلمة من ظلمة العين غير المبصرة؟ وجميع هذه الاسئلة تطرحها الشخصيات في عمل مشحون بالنقد والرغبة في الثورة على منظومة اخلاقية ومجتمعية هشة.