وهنّ منهكات الروح والجسد؟ اي طاقة يمكن ان تسكن المرأة بعد وجيعة العنف والتحرش والاغتصاب؟ وهل تستطيع المرأة تجاوز طفولتها المظلمة لتصنع ذات براقة ومستقبلا ملوّنا ام ستظل وجيعة الطفولة وجراح الروح ترافقها؟ هي مجموعة من الاسئلة التي تطرحها مسرحية "سين".
وهي مسرحية نص ودرامانورجيا لهدى اللموشي واخراج مريم عتيق الجلاصي وكلتاهما قدمتا شخصيات لمسرحية تحدثت عن الم النساء ضحايا العنف المادي والنفسي.
سين: سردية العنف والخوف
"سين" مسرحية تنقل للمتلقي وجع المراة المعنفة، عملية "زووم" على لحظات الالم التي تعانيها الانثى في مجتمع يصمت امام تعنيفها، "سين" شخصية ربما تكون متخيلة كتبتها هدى اللموشي لكنها حقيقية في معاناتها وتشترك معها المئات من النساء اللواتي قابلتهنّ كاتبة النص خلال فترات متعددة من حياتها حين اشتغالها على المسرح العلاجي.
فسين الشخصية المسرحية، هي انثى تعاني من مجتمع ظالم وتعنيف ابوي وذكوري يراها مجرد وعاء للذة، سين حقيقة برائحة العفن، سين جرح في الروح لا يعرف الشفاء، سين وجع منساب وسردية قاتمة ابدعت هدى اللموشي ومريم الجلاصي في تقديمها الى الجمهور.
"سين" انثى ولدت في عائلة فقيرة عاطفيا، اب يعنف زوجته يوميا وام تتلذذ بالضرب والتعنيف لحماية ابنائها من خطر الشارع والمجتمع، سين سردية عذابات وعقد نفسية تزرع في الطفلة الصغيرة، تلازمها الى ان تنعت "البوهالية" لقبها الذي سيلازمها طيلة عمرها، "سين" الشخصية الوجع، شخصية مركبة تعيش بطاقة من الخوف والرهبة، خوف يستشعره المتفرج الى حدّ الشعور بالغثيان في كثير من المشاهد ومنها مشهد "التحرش" الذي تتعرض له الطفلة من "الخضار"، نص يرشح برائحة الخوف والفناء أبدعت الكاتبة في ترصيف كلماته كمن يرتب لآلئه بالكثير من الفن.
"سين" تصدح بموسيقى صاخبة وغاضبة، تتماهى مع ماتعيشه الشخصية، الموسيقى التي صنعها صابر المحواشي خصيصا للعرض والتي تلاءمت مع وضعيات الخوف والقهر اللذين تعيشهما الشخصية، الموسيقى صوت للروح والقلب المرتجف، وضعية حادة أحيانا تتحول إلى نشاز تماما كحالات "النشاز" اليومي التي تعيشها سين بسبب صراخ الام وتعنيف الأب واعتداء الشارع، نوع من اللعب النفسي استعمله صانع الموسيقى ليقحم المتفرج في الحكاية ويدفعه ليتأمل أدراجه المغلقة ويخرج هو الآخر بعض ما يخفيه من وجع منسي.
"سين الشخصية" هي مئات وربما آلاف النساء المعنفات، صورة عن الفة الشارني المقتولة، وعاملات المنازل المتعرضات للعنف اليومي، صورة عن احلام تجهض بسبب التحرش والتعنيف، وجه لنساء كثيرات يتعرضن للضرب من لدن ازواجهنّ وامام صمت القانون والخوف من المجتمع تكون النتيجة "الموت الصامت"، سين ليست مجرد شخصية بل عالما من الم النساء، رحلة صادقة لملامسة الجراح النازفة ومحاولة لاخراج تلك الطاقة على المسرح علّ النساء المعنفات يشعرن بالقليل من الطمأنينة.
جسد الممثل حمال الوية، جسد الممثل وطاقته مطية لتفكيك اصعب النصوص وفتح نوافذ على عوالم ابداعية مختلفة، جسد الممثل وسيلة ليفهم المتلقي مدى وجع الشخصية واختلافها،فالممثل هو سيد الخشبة هو القادر على ملء فراغها بمنطوقه وحركاته وقدرته على شد انتباه الجمهور، هو صاحب القرار في بدايته وفي نهايته ، هو صاحب القرار والمتحكم في مشاعر المتلقي يدفعه الى الخوف او النحيب وربما يزرع فيه بعض الامل، فالممثل بطاقته الرهيبة وحده المسيطر على شعور المتلقي وفكره كذلك.
باجسادهنّ كتبن الم "سين" ووجيعة كل النساء اللواتي تعرضن للتعنيف المادي والمعنوي، باجسادهنّ فتح الثنائي مريم الجلاصي وهدى اللموشي ادراجا مغلقة تتضمن داخلها حكايات برائحة الرطوبة، الم دفين عن تعرض النساء للضرب وانتهاك الحرمة الجسدية ووجيعة "الحيض" والم التحرش، رائحة عطنة وقاتلة تخرج من خبايا العمل بمجرد ان قررت "سين" البوح بحكاياتها.
"سين" هو اسم المسرحية والشخصية، "سين" شخصية كتبتها هدى اللموشي منذ عامين، خلال فترة "الكورونا" بدأت بتنزيل حكايات "سين" على حسابها على الفايسبوك، ثم قررت الكاتبة ان تصغي اكثر لشخصيتها وبعدها تتبعت ألمها ونجاحها فكان كتاب "حكايات سين والعزري" الذي خرج الى النور في فترة المعرض الوطني للكتاب، ولان هدى اللموشي ورفيقتها في الجنون مريم الجلاصي لا تعرفان معنى "مستحيل" قررتا أن تبعثا الروح في "سين" وتسمحان لها بالبوح امام الجمهور فكانت "سين" المسرحية، وخرجت سين من صفحات الكتاب الى الركح.
اختلفت الشخصيات بين الرجالية والنسائية، تعددت المشاهد الصادمة والموجعة امام جمهور قاعة "الريو"، تناوبت كلتا الممثلتين على اداء شخصية "سين" وكل منهما اعطتها الكثير من روحها واحلامها وصدقها، على الركح تسترجع "سين" ذكريات طفولتها وتفتح جراح الروح القديمة، بداية مع "الزهرة" الام المعنّفة وصولا الى سين البنت المعنفة والمغتصبة والساكتة خوفا من الاب والمجموعة، تنفتح الذكريات تدريجيا من خلال الاضاءة التي توزع الركح الى ثلاثة اروقة وهي الفترات العمرية التي ستتناولها المسرحية، رواق للطفولة واخر للمراهقة وثالث للحاضر بعد تخرج سين من الجامعة.
الاضاءة تتماهى مع وجع سين وذكرياتها المبحوحة فتأتي خافتة تميل الى صفرة مزعجة تتماهى مع عطش التربة وصفرة اوراق الخريف المتساقطة، هو عطش سين للرعاية والحب والاهتمام، وصفرة ايامها للهو ولطفولة متوازنة كغيرها.
"سين" مسرحية تولد من رحم المسرح، على الركح ممثلتان، تجسدان دور ممثلتين تشتغلان على حكاية "السيدة سين" في فضاء آيل للسقوط، رائحة الرطوبة تنبعث منه، كل منهما تحفظ النص وفي الوقت ذاته تنظف المكان، تقرر احداهنّ الانسحاب "تعبت، تعبتني سين، ماذا لو سقط المكان؟ هل سيشعر بغيابك احد؟ طبعا لا؟ فقانون الفنان مازال ماثماش" باشارات خاطفة تنقد الشخصية غياب قانون الفنان وعدم تطبيقه الى حدّ اليوم، تنقد وضعية الفنان المسرحي الذي ينتظر الدعم لانجاز عمله وربما يموت قبل وصول منحة الدعم او خلاص العروض" ففي المسرحية تتماهى الذات الحقيقية مع ذات الشخصية لنقد واقع الفنان المسرحي ومعاناته في دولة تدعي انّها "السباقة" في المسرح والفنون.