وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ يوسف:21 أي: والله غالب على أمره لا يغلبه فيه أحد، وهذه الآية وردت في سورة يوسف -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-، وفيها بين الله تعالى أنه غلب على أمر يوسف-عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام-، يسوسه ويدبّره ويحوطه، ويقلبه كيف شاء بما يؤدي إلى رفعته بعد إصابته بالضراء، وهو الذي يبني فيه الـمَلَكةَ التي بها يُصلح حال الأرض وينصف البؤساء.
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أي: إن أكثر الناس لا يطلعون على غيب الله، وما في طيه من الأسرار العظيمة، والحِكَم النافعة العميمة، والتدبيرات الكريمة. وأيضاً، فإن أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أنه تعالى غالب على أمره، بل يأخذون بظواهرِ الْأمورِ؛ إذ هم لا اطلاع لهم على ما خبأه الله لهم في الغيب المستور، كما استدل إخوة يوسف بإبعاده على أن يخلو لهم وجه أبيهم ويكونوا من بعد إبعاده عنهم قَوماً صالحين. وقد يكون المرء عالماً أن الله غالب على أمرِه، وأقواله صريحة في الدلالة على علمه، ولكن علمه بذلك نظري كلي إجمالي، لا يحيط بتفاصيل الجزئِيات المخبوءة في مطاوي الأقدارِ، ولا بكيفية وقوع الإرادة الغالبة للملك الجليل القهار.
قالت الحكماء في قوله سبحانه: وَاللَّهُ غالب على أمرِه لقد أراد يعقوب عليه السلام أن لا يكيدوا لأخيهم، فغلب أمره حتى كادوا، ثم أراد أخوة يوسف قتله، فغلب أمره حتى لم يقتلوه، ثم أرادوا أن يلقوه في الجب ليلتقطه بعض السيارة، فيندرس اسمه، فغلب أمره حتى لم يندرس اسمه، وصار مذكوراً مشهوراً، ثم إن الله دفع السيارة إلى الجب البعيد بما سببه لهم من احتياجهم للماء ليجدوه، ولينفذ قضاء الله ذي الجلال والكبرياء، ولهذا قيل: ألا ربّ تشويشٍ يقع في العالم، والمقصود منه سكونٌ واحد، كما قيل: ربّ ساعٍ لقاعد، فيوسف
في مكانه، والسيارة في خدمة إيوانه. ثم باعه السيارة ليكون مملوكاً، همه في بطنه، وفي حمل المتاع عليه، فغلب أمر الله تعالى حتى صار يوسف -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- مخدوماً مكرم المثوى كأبناء الملوك والعبيد بين يديه. ثم احتالت امرأة العزيز أن تدرأ التهمة عن نفسها، لتلصقها بالبريء المخبت القانت يوسف-عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- وقالت: مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيم يوسف:25، فغلب أمر الله تعالى حتى أنطق له شاهداً من حيث لم تحتسب، فإذا يوسف يزداد رفعةً في المقام الكريم، وينتقل ليعيش بين التكريم والتعظيم.