مسرحية «البائع المتجول» من الأردن لـ المعتمد مناصير ضمن أيام قرطاج المسرحية: المسرح صوت الإنسان وصدى صراعاته

يتبع المسرح سيرة الإنسان منذ القديم، يحتضن الركح الأحلام المنشودة ويعيد كتابة الواقع المرير، يمتصّ المسرح كل الأفكار باختلاف مشاربها السياسية والاجتماعية والاقتصادية

هكذا هو المسرح الذي قدمه المخرج الاردني معتمد مناصير في مسرحية «البائع المتجول» التي عرضت ضمن فعاليالت ايام قرطاج المسرحية.
«بائع متجول» عن نص اصلي لارثر ميلر، اقتباس عمر نقرش، وتمثيل كل من عمران العنوز ومحمد الزغول وميس الزعبي ورشيد الحسن ومثنى الزبيدي وامين جبار وتنقل المسرحية الصراعات العائلية والاقتصادية والمالية.
صراع الإنسانية والرأس مال
المسرح مرآة المجتمع، على الركح تتعرى الأجساد من كل القيود التي تكبلها، يقف الممثل امام مرآة الشخصية يتماهى معها ويحلق في رحاب النقد والجراة دون خوف من الاخر، فالشخصيات المسرحية حرة ومنطلقة دائما.
تكتب الاضاءة ملامح الشخصيات، تسبر اغوارها، المشهد الأول تكون الاضاءة خافتة، عازف «الفلوت» يتجول في رواق ضوئي وخلفه الكوريغراف بلباس اسود موحد يرقص ويحول تلك النوتات الحزينة الى حركات كأنها صرخة الروح التي تكتب للمتفرج بالجسد، فعازف الفلوت سيعود للظهور من جديد اخر العرض وكان المسرحية في شكل دائري كما دورة الحياة.
الإضاءة تقسم الركح حسب حضور الممثلين، مرة تكون شاملة لكامل فضاء اللعب لتكشف للجمهور أسرار تلك العائلة، وأحيانا تصبح جزئية موغلة في الضيق وكأنها عملية «زووم» على شخصية دون اخرى، في المسرحية الضوء الاصفر بتدرجاته هو اللون المسيطر، الاصفر هنا ليس عنوانا للأمل كما تقول الفنون التشكيلية، بل يحيل الى السأم والضيق، فكل الشخصيات تعيش القلق، وكل شخصية تحاول جاهدة البحث عن بعض الأمل، هذا الصراع بين الشخص واناه، وبين الشخصية والاخر يكتب عبر هندسة الاضاءة.
يتواصل الصراع بين الشخصيات وواقعها ومجتمعها، تتوزع الاضاءة وحركات الجسد المضطربة لتجعل المتفرج يعايش ألمهم وانفعالاتها النفسية، «بائع متجول» هو الأب عماد البيت واساسه، يتجاوز الستين من العمر، ينهك الجسد ويضعف البصر، تصبح الحركة بطيئة، عامل منذ اربعة وثلاثين عاما في مؤسسة قدم لها الكثير من الجهد، فتجازيه شركته بالطرد «لقد أصبحت عجوزا، لم يعد لك مكان بيننا، انت مطرود» هنا ينقل المخرج الصراع بين العمال ورأس المال، صراع أزلي بين صاحب المال والطبقة الشغيلة، علاقة عمودية مزعجة تنتفي داخلها كل القيم الانسانية، وتمحى كلمة «انسان» من كابوس رأس المال ليتعامل مع الآخر على كونه: عدد ساعات العمل، طاقة العمل، السرعة في الانجاز، السن، امّا انسانية الانسان فترمى في سلة مهملات الشركة.
«بائع متجول» نص مسرحي عالمي للامريكي آرثر ميلر ويقدم الصراع بين الراسمالية والاشتراكية، صراع ستكون ضحيته البروليتاريا، فصاحب الشركة حين يقرر طرد العملة تتوه العائلة وقد ينحرف الشباب بسبب الأفق الشغلي المسدود، فعلى الرّكح تجسد آليات الصراع الوحشي والخفي بين طبقة حالمة بلقمة العيش وأخرى حالمة بالمزيد من المال والقرارات التعسفية.
المسرح بوابة للنقد وطرح مشاكل الشباب
تحمل الموسيقى الكثير من الوظائف السيكولوجية والاجتماعية والدلالات التعبيرية مثل التعبير الانفعالي وكيفية التواصل بتحوله بتجسد بناء الوظائف النفسية والتعبير عنها، وأيضا بالدلالة على على مراحل الزمن وعلى خاصية الإيقاع هكذا تعرف السينوغراف اللبنانية شادية زيتون حضور الموسيقى في العمل المسرحي، وفي «بائع متجول» تكون الموسيقى أولا وسيلة لهرب الشخصية من فعل «الانتحار: ثم تكون الوسيلة ليتعرف المتفرج على الملامح النفسية والمجتمعية للشخصيات، فمع الإيقاعات القوية يكتشف عنف الشباب تجاه والده ومجتمعه.
هذا الشاب هو أنموذج للملايين الشباب في المجتمعات العربية التي تربت في ظل «غرور ودلال» الأب لتصطدم بقبح الواقع وصعوبته في أول لقاء للبحث عن عمل، فالموسيقى الحية التي تعزف على الركح، ثم الأخرى التسجيلية المتماهية مع صوت النحيب في المآتم تكون الدلالة النفسية المباشرة لإحساس الموت التدريجي، موت الثقة، موت للأمل، موت الشغف والرغبة في الكثير من احيان، موت أحلام الشباب أمام منظومات شغلية قاسية، وبطالة منتشرة في كل أصقاع الدول العربية، ففي الاردن مثلا بلغت نسبة البطالة لدى الشباب 22.8 وفي تونس على سبيل الذكر 37.2، فالشباب يعاني من بطالة ترهق الروح قبل الجسد، يجسدها الممثلين ببراعة عبر لعب درامي متقن لجمهور المسرح.
يكتب الجسد إلياذته الخاصة به، يصنع تعبيراته المختلفة، يحاكي الوجع وينقل للجمهور مناحة الموت، بجسده يصنع الكوريغراف والممثل العراقي امين جبار نصه المسرحي الخاص جدا، في العمل يكون الجسد ورقصه هو النصير للحياة ويتماهى مع افكار الموت والشعور بالضياع، بجسده وطريقته المميزة يبدع جبار في التماهي مع النص المكتوب ويحوله الى لغة الجسد، فيتماهى الرقص مع الاضاءة والموسيقى ليفككوا شيفرات العمل ويوصلوا رسالة المسرحية للجمهور.
المسرح فضاء للتعبير والحلم، على الركح تتعرى الافكار وتتصالح الاجساد مع ذواتها، على الركح يكون اللعب اجمل وتكون الطاقة بين الممثل والمتلقي مباشرة، فتكتب الرسائل بطريقة اوضح وتصل مباشرة، فالمسرح مساحة للبوح وفضاء الانتصار للانسان.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115