فيلم «العبد» للمغربي عبد الإله الجوهري: عبودية مقنّنة تكبل حرية الإنسان المعاصر

هناك أفلام تمر كالبرق الخاطف دون أثر أو تأثير، وهناك أفلام تعلق في الذاكرة كالوشم وتترك علامة ما في فكر الإنسان. في ضرب على وتر البديهيات،

يستفز الفيلم المغربي «العبد» سكون الإنسان المعاصر ويوقعه في التناقض بين تشدقه بالحرية وخضوعه لعبودية مقنّعة. ولئن قال إبراهيم الكوني إنّ «أرذل ضروب العبودية هي عبودية نختارها بأنفسنا»، إلا أن بطل هذا الفيلم اختار أن يكون عبدا بمحض إرادته حتى يجد في استبعاده حريته !
من إبداعات الفن السابع التي استضافتها أيام قرطاج السينمائية في دورتها الأخيرة الفيلم المغربي «العبد» للمخرج عبد الإله الجوهري والذي استحق تانيت أفضل موسيقى. وفي بحر هذا الأسبوع كان تتويج الفيلم مضاعفا في مهرجان الرباط الدولي لسينما المؤلف حيث فاز بجائزة لجنة التحكيم وجائزة الجمهور .
حيرة فلسفية وبطل وجودي
منذ قرون بعيدة طلّقت البشرية العبودية. أو هكذا خيل إلينا بانتفاء سوق العبيد ومنع الاتجار بالبشر في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان. لكن فيلم «العبد» رّج هذه القناعة/ البديهية ليثبت أن العبودية لم تنته بل هي متواصلة في الزمان والمكان حتى وإن أخذت أكثر من شكل ولبست أكثر من قناع في زمننا المعاصر.
بإمضاء كل من الكاتب والناقد السينمائي التونسي والمخرج السينمائي المغربي عبد الإله الجوهري جاء فيلم «العبد» ليطرح على شاشة الفن السابع علامة استفهام كبرى عن قيمة الحرية، ويدفع الإنسان للبحث عن إجابة حتمية السؤال الوجودي: «هل فعلا نحن أحرار ؟»
هي حيرة فلسفية وحيرة وجودية زرعها المخرج في بطله «إبراهيم» الذي ينطلق في رحلة البحث عن الذات حتى لو كلفه الأمر التنازل عن حريته وعرض نفسه للبيع. قد يبدو بطل «العبد» شبيها بأسطورة «سيزيف» في دفع الصخرة التي تقبض على أنفاسه وتصادر إحساسه العميق بمعنى الحرية
دون تردد وبكل إصرار عرض بطل الفيلم نفسه للبيع وأعلن أنه يبحث عن سيد يمتلكه على شرط أن يكون ثريا. أمام اتهام الناس له بالعبث لا يتراجع «إبراهيم» عن قراره حتى يعثر على رجل أعمال يقبل شرائه واستعباده في القرن العشرين. لقد ارتحل البطل إلى مدينة يأتيها الناس من كل صوب أملا في وظيفة بمعمل على ملك البرجوازي «سي بن عمر». وبعد أن قبل هذا الرجل الغني بشرائه، اتخذت الأحداث منحا تصاعديا من خلال المواجهة بين السيد والعبد حول مفهوم الحرية.
عبر تقنية «الفلاش باك» تكشف ومضات العودة إلى الوراء إلى أن هذا الشاب لم يكن أبدا حرا منذ طفولته وصباه . فالعائلة هي من قررت مصيره ومساره وفرضت عليه قناعاتها وأفكارها دون أن يكون له الحق في الرفض والموافقة أو حتى إبداء الرأي. كانت كلها تراكمات أثرت في تكوين الشخصية حتى قررت الانفجار على واقعها والتمرد حتى على نفسها! هي جراحا نفسية واجتماعية قد يعيشها الإنسان فتجعله عبدا لذكريات أو عقد تحد من حريته وتأسر فكره وأفكاره...
حين يصدح البطل في الناس: «أنا عبد للبيع»، قد يُضحك هذا الفعل الناس أو يثير استغرابهم... لكن الفيلم يتدرج في كشف مظاهر العبودية المعاصرة التي تفضح زيف ادعاء الحرية المطلقة. هي عبودية الأجراء لصاحب العمل الذي يستنزف عرقهم وعمرهم من أجل زهيد المال. وهي عبودية لإنسان للمال وللآلة و للأقوى ولصاحب السلطة... هي عبودية طوعية تتخذ عشرات الأشكال ولكن لا أحد يسميها بأسمائها الحقيقية في تمويه ومداراة لأصل الأشياء.
جمالية موسيقية ورمزية مغلفة بالشاعرية
لا يسعى المخرج المغربي عبد الإله الجوهري وراء صناديق الدعم الأجنبية ولا يمتثل إلى إملاءاتها وشروطها، وحسبه تسخير كاميرا أفلامه للدفاع عن سينما ملتزمة ومناضلة من أجل إنسانية الإنسان في كل الأوطان. وفي فيلمه الروائي الطويل «العبد» أراد أن يصوّر «المغرب» على طريقته مقتفيا لأثر الجمال والاختلاف في صحرائها وخصبها وهو الذي صرّح بأنّ «خياره في تصويره أحداث فيلمه بالمنطقة الشرقية وبالتحديد بين مدينتي فكيك ووجدة، جاء بسبب بحثه عن فضاء مميز يجمع بين المناطق الصحراوية والخضراء من أجل توظيف هذه الفضاءات التي تزخر بتراث غني لم يسبق أن تم استغلاله في أي أعمال من قبل».
لم يخف الطرح الفلسفي لفيلم «العبد» جمالية في الصورة وانتقاء زوايا التصوير و كثافة في توظيف الرمزية المغلفة بشاعرية لم تتعارض مع القلق الفكري الذي يثيره الفيلم . وقد كانت الموسيقى سيدة الإحساس في فيلم «العبد» في إبداع بتوقيع كمال كمال، فليس من المفاجئ أن يفوز الفيلم بجائزة أفضل موسيقى تصويرية في الدورة 33 من أيام قرطاج السينمائية.
لقد اختار البطل أن يخوض ملحمة وجودية حتى وإن بدت في نظر الناس ضربا من العبث. فقاد معركته مع نفسه والآخر بكل شجاعة ولم يأبى الفشل فقد كان شرف المحاولة كافيا في نظره لهزم ضعفه وتيه شعوره وفكره ...
وفي نهاية المطاف عثر «إبراهيم» على طريق السعادة وسر الارتياح. لقد كان الحب طريقه إلى الحرية !

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115