يمثل تونس في «أوسكار 2023»: «تحت الشجرة» فيلم روائي لـم يخرج من جلباب الوثائقي!

إلى «كسرى» المدينة التي تبدو وكأنها معجونة من الصخر ما بين قصر وجبل، تحلّق بنا كاميرا المخرجة أريج السحيري لتحط الرّحال «تحت الشجرة».

هناك كان الشباب يقطفون ثمرات التين من الشروق إلى المغيب وينسجون حكايات من نور الشمس وغزل الطبيعة. وفي تلميح فطن من المخرجة أريج السحيري كانت ثمرة التين تشبه الإنسان في العموم في الجمع بين الصلابة والهشاشة، النضج والطيش، العتمة والمتعة...
في الدورة 33 من أيام قرطاج السينمائية فاز فيلم «تحت الشجرة» لأريج السحيري بالتانيت الفضي. وبعد أشهر يطير هذا الفيلم الروائي الطويل إلى «لوس أنجلس» لتمثيل تونس في جائزة «الأوسكار» 2023، وفي جرابه أكثر من تتويج في أكثر من مهرجان سينمائي عبر قارات العالم.
حكايات متفاوتة النضج كحبات التين
يوم واحد فقط كان كافيا لتصوير فيلم «تحت الشجرة». وكم من يوم يساوي عمرا ؟ وكم من يوم يمثّل الفارق في حياة كل إنسان؟ وكم من عاملة فلاحة ذهبت على شاحنة الموت فجرا ولم تعد بعد العصر؟ إلى كسرى تأخذنا أريج السحيري إلى حيث حقول التين الشهيرة بمذاقها العذب لتنقل لنا بعض من حياة مجتمع يقتات من خيرات الطبيعة ويعيش على مدخول قطاع الفلاحة. في نوع من الذاتية التي تتقاطع مع الموضوعية، قامت المخرجة أريج السحيري بتصوير فيلم «تحت الشجرة» وهي ابنة الجهة التي كان سيكون مصيرها كمصير عاملات الفلاحة هناك لولا أن والدها هاجر إلى فرنسا لتستقر العائلة هناك. ويأتي هذا الفيلم كردة فعل على حوادث الموت المتكررة والتي تقصف حياة وأمنيات نساء تونس في كل مرة.
منذ ما قبل شروق الشمس إلى موعد الغروب، رافقت كاميرا المخرجة أريج السحيري أبطال فيلمها في رحلتهم اليومية إلى الحقول من أجل قطف حبات التين في كل صيف. كان أغلبهم من الشباب، فتيانا وفتيات في مقتبل العمر وفي اختبار أوّل لمشاعر الحب وبوح الجسد. لم تختلف ظروف نقلهم عمّا نعرفه ونشاهده من مآسي رصّ العاملين في الفلاحة رصّا كالدواب على متن ظهر الشاحنة حتى يتسع المكان لأكثر عدد ممكن من الرّكاب. وتحت أشجار التين انتشروا يقطفون حبات سوداء تتقاطر عسلا مع حرص شديد على سلامة الثمرة وعدم كسر الأغصان. وتحت ظلال كل شجرة كانت الطبيعة تكتب قصص الحب والصداقة والتضامن بمنتهى التلقائية والعفوية.
«ليس فيلم قضايا بل فيلم أحاسيس»
في صباح توّهج الأغنيات، يقف أبطال الفيلم عند العتبات المعلّقة بين الطفولة والشباب فيعبّرون ببراءة عن مشاعر تختلج في أفئدتهم لم يختبروها من قبل، فربما كانت عشقا وربما شوقا وربما حنينا... وقد تركت لهم المخرجة المجال ليتحدثوا عن أنفسهم بلهجتهم الريفية ووفقا لثقافة الحياة في سليانة وولايات الشمال الغربي. هو لم يكونوا ممثلين في الأصل بل جمعتهم المخرجة من الحقول والأرياف ليكونوا صادقين في أدوارهم ولتكون هي وفية لروح الفيلم ومناخاته وأجوائه... في توظيف ذكي واشتغال طريف على دلالات ثمرة التين كانت حكايات الشباب تشبه في تفاوت درجات نضجها حبّات التين التي تتفاوت في تدرج ألوانها ما بين الأخضر والأسود.
أمام شاشة «تحت الشجرة» للمخرجة أريج السحيري عبثا نبحث عن مقومات الفيلم الروائي في بنيته الكلاسيكية، فيضيع انتظار مشهد «العقدة» أو تطور المنحى الدرامي هباء! لا ننتظر تشويقا أو تلاعبا بانفعالاتنا أو أعصابنا... فنحن أمام فيلم هادئ الأحداث والطباع ينقل حكايات عاملات وعمال الفلاحة من مختلف الأعمار يقتسمون الأحاديث واليوميات والغداء. كان يمكن للمخرجة أن تتعمق في مأساة عاملات الفلاحة وأن تصوّر ثراء مدينة «كسرى» الغنية بالتراث والآثار وأن تثمن الموروث الغنائي بالجهة لكنها أرادت أن تصوّر سكان الريف على عكس الصورة المعتادة والنمطية وأن تمنحهم الفرصة للتعبير عن أنفسهم كما يحلو لهم. وتدافع المخرجة أريج السحيري عن هذا الخيار فتقول بأن «تحت الشجرة» هو «ليس فيلم قضايا بل فيلم أحاسيس» .
ويبدو أن المخرجة التي اختبرت كاميرا الأفلام الوثائقية وتمرست على سينما الواقع إلى حد تحقيق نجاح كبير في فيلمها الوثائقي الأخير «عالسّكة» - والذي يفضح اهتراء أسطول القطارات في تونس ومعاناة العاملين بالسكك الحديدية - لم تتخلص بعد من هاجس التوثيق ونقل الواقع بلا رتوش أو تجميل. دون اعتماد على مؤثرات بصرية أو موسيقية، ركزت عدسة الكاميرا على تعبيرات الوجه ونظرات العيون واقتفت آثار الخطوات وحركات الجسد في نزول وصعود ، حزن وفرح، قهر وأمل ... لتسيطر شيئا فشيئيا خصائص السينما الوثائقية على حساب شقيقتها الروائية.
في «تحت الشجرة» تحجب ظلال الفيلم الوثائقي غصن الفيلم الروائي مع جمالية في الصورة ورمزية في اختيار زوايا التصوير. وفي نهاية المطاف كانت هذه الشجرة بمثابة صورة مصغرة عن تونس. هي البلاد الذي يجني أبنائها ثمارها بجشع وطمع ، ولا يتوانون عن كسر أغصانه وضلوعها عندما تزل به القدم أو يخطئون التقدير، فالمهم هو نجاتهم حتى ولو كان طوق الخلاص هو بيع الوطن بأبخس الأثمان.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115