«دازاين، عائشة 13» لسامي النصري في مهرجان بغداد الدولي: ثمن الحرية باهض واثبات الذات بحث انطولوجي ومسرحي

يكتبون انتصاراتهم الصغيرة، يحوّلون الوجع الى لعبة مسرحية يتماهى فيها الشخص والشخصية، يحملون بين قلوبهم وجع الوطن وحكاياته فيصنعون منها مادتهم الابداعية

على خشبة المسرح، فالمسرح فضاء للّعب والنقد والتجريب ايضا وفي سياق طرح السؤال عن العقل والجنون تتنزل مسرحية «دايزاين، عائشة13» اخراج سامي النصري والتي عرضت مساء امس الاثنين ضمن فعاليات المسابقة الرسمية لمهرجان بغداد الدولي.
«عائشة13» نص لرياض السمعلي وتمثيل مهذب الرميلي ومحمد شعبان وهاجر حمودة وميساء ساسي وفوزية بدر واصالة نجار ومحمد بوزيد ونور قروي وانتاج فضاء مسار.
الصراع لاثبات الذات والكينونة
الفرد عينة عن المجتمع والمجتمع وطن مصغّر، وللكشف عن انتشار الفساد وانعدام الاخلاق والتفكير الأناني لدى الأفراد يضع المخرج سامي النصري شخصياته على طاولة التشريح، ليكشف للمتلقي قبح الذات ومنها انتشار الفساد والحيف والمحسوبية لدى المجموعة، أمام مرآة الحقيقة يضع شخصياته، يعريها من ملكة العقل لتكون أكثر صدقا وتبوح بما تخفيه من حقائق ووجع جماعي مشترك.
في المسرحية يختار كاتب النص رياض السمعلي فضاء مصحة للأمراض العقلية مكانا لسيرورة الأحداث وسرد حقائق الأنا وأوجاع الوطن في مكان مظلم ومخيف وتنفى داخله ملكة العقل، ويبدأ الصراع بين العقل والجنون، بين الموت والحياة، ذاك الخيط الرفيع بين الإنسان السويّ العاقل والآخر المجنون، يجعله المخرج وسيلة لتغيير فضاءات اللعب وكذلك الأحداث.
«دازاين، عائشة13» هو عنوان المسرحية، عنوان مركب من كلمتين وكلاهما تحيلان إلى معنى الوجود أو حرب الوجود والحرية التي ستخوضها الشخصية الرئيسية»عائشة» (هاجر حمودة) فمن المعنى الانطولوجوي لكلمة «دازاين» الألمانية ينطلق سامي النصري في تركيب شخصياته وشحنها بقيم المقاومة، ودفعها لتبحث في ماهيتها وحقيقتها، فماهية الإنسان جوهرية بالنسبة إلى حقيقة الوجود هكذا يقول «هيدغير» لذلك ينطلق من مفهومه العتيد الدازاين (Dasein) بالألمانية، ويشرحه عبد الرحمن بدوي بقوله أي: «الوجود في العالم، وهذه العبارة لا تشتمل فقط على المعنى المكاني، بل وأيضاً المعنى الأنطولوجي، وهذا الوجود الإنساني عام بين الناس جميعاً، وإن بدأت تجربتي من وجودي أنا الخاص بي، ومهمة التحليل الأنطولوجي ستكون –إذن- الكشف عن الوجود الإنساني بعامةٍ، التراكيب الجوهرية للإنسان هي تلك التي تلزمه ككل، فعلى التحليل الأنطولوجي أن يتناول –إذن- كل أحوال وجود الآنية (الدازاين)، كما كتب فهد الشيقران في «مركز المسبار للدراسات والبحوث» ومن هذا التعريف تبنى تركيبة الشخصيات نفسيا وذهنيا.
«دازاين» او صراع إثبات الذات، رحلة فنية تخوضها الشخصيات لتثبت كينونتها وتدافع عن أحقيتها في الحياة، فتولد عائشة امرأة حرة، كاتبة شرسة وصحفية مشاكسة، تكتب عن حرية الأفراد وصراعات الشعوب، تنتصر للإنسان الثائر، تكتب بجرأة من لا يهاب الموت ولا يعرف معنى الخوف، تحاول عائشة تطبيق فلسفة «هيدغير» في كتاباتها وتناقش بأفكارها كل فلسفات العالم.
تعيش الشخصية صراعها بين اثبات الذات وظلم المجموعة وفساد المنظومات والسياسات لتدفع في النهاية حريتها وعقلها ثمنا لهذه الجرأة، فتقضي اعوام في مصحة للامراض العقلية والنفسية، ترفض الدواء والعلاج في مواصلة للتمسك بحقها في الاختيار «فآنية الإنسان حرة» هو من يقرر وهو من يختار أين يوجد ومتى وهو الوحيد صاحب الاختيار في كيفية عيشه وفي المسرحية تحاول الشخصية الالتزام بخصوصيات الوجود الإنساني حسب الفلسفة الانطولوجية.
كل الشخصيات تعيش صراع إثبات الذات، رغم جنونها أو مرضها النفسي فهي تصارع في مساحات البوح والصراع مع الوجع ومحاولة التغلب عليه يعود العقل لتصرخ الشخصية ضدّ كل ظلمات المجموعة، فيكتشف المتفرج وجع المراة في المجتمعات العربية، تلك المقيدة بالنواميس والعادات، تبوح العائدة من داعش بالانتهاكات الجسدية والنفسية التي تعرضت لها، تبوح الاخرى بزواجها طفلة من رجل بعمر والدها، تبكي الثالثة ألم الفقر والانقطاع عن الدراسة، لكل واحدة من الشخصيات ألمها الدفين، تهرب منه الى مساحة الجنون علّها تنسى ذاك الالم والخوف، لكن كاتب النص لا يمنح شخصياته هذه الرفاهة ويعيدها قسرا الى العقل والوعي فتعيش الالم مرتين، هذا الالم تشارك فيه الممثل والشخصية مع المتفرج، فبعد ساعة ونصف من مشاهدة المسرحية يشعر المتفرج بالاختناق ووجع ثقيل يكتم الانفاس، فهو الاخر جزء من اللعبة المسرحية وجزء من منظومة فساد تعرفها المجموعات.
الممثل حمّال شيفرات المسرحية
«عائشة13» مسرحية تكشف عن فساد المجموعات وقبح الافراد، عمل مسرحي يشرّح المجتمعات ويكشف العورات المخبأة خلف الجدران العالية، يحمّل المخرج ممثليه شيفرات العمل، يترك لهم مساحة مطلقة للتعبير عن وجع الشخصية واضطرابها، بعضهم يتماهى مع دوره حد التناص، لكل ممثل طريقته في التعبير عن الشخصية والنص، لكل زاده التمثيلي المختلف لكن جميعهم يشترك في الصدق والاتقان التقني للشخصية والتماهي الذهني والنفسي معها.
في «عايشة13» يقدم محمد شعبان شخصية مختلفة عن بقية اعماله، شخصية طبيب نفسي يبدي الحكمة والرصانة في القرارات ومع تقدم الاحداث يكتشف الجمهور انّه الاخر يعاني من المرض النفسي، يتقمص مهذب الرميلي شخصية الاداري الصارم والباحث الدائم على مصلحة المصحة على حساب الاخلاقي والانساني، ممثل بنساب مع شخصياته ويتماهى معها جسدا وروحا، الممثلة هاجر حمودة اتقنت شخصية عائشة وكانت مميزة، هادئة الطباع، تتقن فن المرور من حالة نفسية الى اخرى، تشد متفرج المسرحية وتجبره للتعاطف معها وفكّ شيفراتها، وكذلك القيدومة فوزية بدر ابدعت في شخصياتها ولعبت ببراعة ممثلة عاشقة، في المسرحية يقدم كل ممثل اوجه مختلفة للانسان، خاصة العقل والجنون، بينهما تتراقص الشخصية، تقفز بمهارة الى مساحات العقل ثم تعود الى الجنون، وبين هذا وذاك تبدع في نحت عمل مسرحي تونسي يسلط الضوء على فساد جزء من المنظومة الطبية والنفسية.
«دايزاين، عائشة13» مسرحية تتناول بالنقد الامراض النفسية وتطرح السؤال حول من المجنون، من فقد عقله ام من فقد اخلاقه وقيمه، ايهم المجنون من دفع عقله ثمنا لحريته؟ ام من باع ضميره ثمنا لشبح المال والسلطة؟.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115