فيلم «قدحة» لأنيس الأسود: هل يمكن أن نشتري للطفولة المعذبة حياة أخرى؟

كما كان «قدحة»، بطل الفيلم يرمي بسهمه عين الهدف في لعبة القوس والسهم، برع المخرج أنيس الأسود في فن الرماية في سينما الطفل ليكون ناطقا بهواجسه

ونصيرا لقضاياه على شاشة من بطولة الأطفال ووجوههم ... وبعد فيلمه الشهير «صبّاط العيد»، حاز فيلمه الروائي الطويل الأول «قدحة» على أكثر من تتويج في مهرجانات تورنتو وكندا وفاس ومالمو والقاهرة..
ينطلق غدا في القاعات التونسية عرض فيلم «قدحة» للمخرج أنيس الأسود، سيناريو شامة بن شعبان أنيس الأسود، وبطولة ياسين طرمسي - أحمد زكرياء طرمسي - جمال العروي - شامة بن شعبان - درصاف ورتتاني - أنيسة لطفي.
قصة من الواقع والخيال
في أحد المستشفيات العمومية، تنطلق الحكاية ويولد الفيلم من رحم قصتين متوازيتين في خط الزمن وفي حجم الوجع. هما حكايتان عن عائلة ثرية وأخرى فقيرة يلتقيان في غرفة الانتظار بالمستشفى ولا يفترقان بعدها. كان هم كل عائلة أن تنقذ ابنها بأي ثمن مهما كلفها الأمر من تنازلات أو تضحيات... كان سبب وصول العائلة البائسة إلى المستشفى إصابة الابن «قدحة» صاحب 12 سنة في حادث مرور ، أما العائلة الميسورة فكان وجودها في المكان ذاته ابنها «أسامة» أيضا ولكن لسبب آخر كان سر الفيلم ومحور أحداثه.
بعد خروجه من المستشفى، يحدث التغيير الجذري في حياة «قدحة» فيجد نفسه في منزل جديد ومدرسة خاصة ومحيط جديد في ضيافة العائلة الغنية. فيحاول اكتشاف لغز هذا الكرم »الطائي» وما وراءه من خفايا؟
كانت عيون » قدحة « هي الكاميرا التي نشاهد من خلالها- نحن الجمهور- أحداث الفيلم. وكان عقله الصغير الذي يحاول العثور على الحقيقة بوصلتنا لاكتشاف القصة كاملة.
بكثير من الدهاء يختبر المخرج أنيس الأسود ذكاء المشاهدين، فهو يلقي إشارات من بداية الفيلم إلى فصله الأخير عن السر الخفي، ولكن تختلف فطنة الجمهور في التقاط خيط الحقيقة، فهناك من يكتشف الحكاية سريعا وهناك من يحتاج وقتا طويلا لفهم القصة. ومهما كان الأمر، فإنّ المخرج تجنّب ممارسة أي رقابة مسبقة على تفاعل الجمهور وترك لهم الباب مفتوحا على مصراعيه للتأويل والتأمل، كل حسب رؤيته وعلى طريقته...
ثنائيات من المعاناة ... أضداد من الحياة
كان الأطفال هم الأبطال، أبطال من دمع وخوف ووجع ... لقد نجح الطفلان قدحة وأسامة في رسم لوحات من الحياة تختزل معاناة الطفولة المتجسدة في فقر وحرمان ومرض. كان كل طفل ينتمي إلى وسط اجتماعي مناقض للآخر، كان قدحة ابن حي شعبي لا يشكو الحاجة بقدر ما يبكي غياب والده ومصيره المجهول وراء البحار في رحلة هجرة غير شرعية إلى إيطاليا... وكان أسامة في غنى عن المال ولكنه فقير إلى الصحة الجيّدة. وفي نهاية الأمر كان الطفلان وجهان لعملة واحدة في المعاناة !
في كسر لنمطية العلاقات بين الطبقة الكادحة والطبقة المترفة، لم يصور المخرج أنيس الأسود الصراعات الطبقية بين العائلتين المتفاوتتين في المستوى الاجتماعي بقدر ما جعل كل أسرة تحتاج إلى الأخرى في تبادل للخدمات والمصالح. فقد يعجز الأغنياء أمام المرض. وقد يقدر الفقراء على بيع الحياة لمن يدفع !
لقد كان مصير الطفلين، البطلين معلقا بيد عائلاتهما الذين اتخذا بدلا عنهما قرارات مصيرية بقيمة الحياة وفي خطورة الموت. وفي نهاية المطاف يكتشف الطفلان أنهما ضحيتان وجدا أنفسهما في قلب الرحى من حولهما بلا حول ولا قوة منهما.
جمالية صورة ورمزية رسالة
كم من القوة نحتاج لمشاهدة فيلم «قدحة»؟ وهل نملك السيطرة على مشاعرنا حتى لا تفيض دموعنا أمام كثافة العاطفة في المشاهد القوية؟ وبعد الفرجة هل سنخرج على حياد مما جرى؟ طبعا لا !فقد استطاع المخرج أنيس الأسود أن يدخلنا في متاهة من الأحاسيس والانفعالات والمجازات... وأمام أبطاله الذين تحركهم مشاعرهم وتقودهم رغبتهم في الحصول على حياة أفضل ، يصعب تصنيف الأشرار والطيبون. فما بين الخطأ والصواب مسافة شعرة رقيقة تبرر بها كل شخصية سلوكها وردود أفعالها فنغفر لها « جريمتها» المغلفة بالتضحية.
وقد انساقت المشاهد وتسارعت الأحداث في جمالية صورة ورمزية رسالة حتى قال الفيلم الكثير من القضايا على شاشة واحدة في تلميح وتصريح. وفي نهاية المطاف يقول فيلم «قدحة»؟ كما قال جبران خليل جبران : «أولادكم ليسوا لكم .. أولادكم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها، بكم يأتون إلى العالم، ولكن ليس منكم .. ومع أنهم يعيشون معكم، فهم ليسوا ملكاً لكم».

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115