الشاعرة فاطمة بن فضيلة تغادر إلى عالم أرحب: ورحلت من قررت أن تكون صوت مريضات السرطان

قاومت المرض بهدوء وشموخ، تحدته لأعوام طويلة، صنعت منه اجمل القصائد واصدق الكتابات، تحدت وجعه وصنعت منه لؤلؤ حبّ يزين جيدها

ثارت على ألام «الشيميو» وحوّلتها الى كتابات تسمو بالقصيدة والفكرة ولكنها بعد اعوام من المقاومة رحلت بهدوء، هي التي اختارت ان يكون شعرها وحرفها صوت كل مريضات السرطان، ودعنا بالأمس حرفها ورحل جسد الشاعرة فاطمة بن فضيلة الى عالم أخر تاركة خلفها سيرة امراة تحدت الفقر طفلة، وتحدت المجتمع شابة وتحدت السرطان، امراة قوية سلاحها الحرف به تنتصر للنساء وتكتب حكاياتهنّ واخر رسائلها الى كل مرضى السرطان «تمسّكوا جيّدا انتم المنتصرون».

هي فاطمة ومن بين اسمائها المحبة والموال الحارق والصامدة، الشرسة والعطوف والرؤوم ووردة الرمال وتفاحة الكريستال، فاطمة الزهرة التي تغني والنبتة ذات الرسالتين، التعليم والشعر، الربيع في نسخته الانسانية، الثائرة في الحياة كما على الورقة، الجمرة التي لاتنطفئ، اغنية المسافر، ومزمار الراعي، شطحة الصوفي وهدير السكارى، هي فاطمة نجوى العشاق وصرخة الثائرين في ساحة محمد علي، العين التي ترى القلوب والقلب الذي يسكنه الله، هكذا يراها صديقها الشاعر جمال الجلاصي.

رحلت الشاعرة والصحفية والمترجمة ومربية الاجيال والنقابية الشرسة، رحلت عاشقة الورود والشغوفة بالكلمة، رحلت فاطمة بن فضيلة بعد صراعها الطويل مع السرطان، هزمته كثيرا، وانتصرت عليه اكثر من مرة لكنه عاد واستوطن الجسد إلى حدّ النهاية، قد تكون نهاية جسد ونهاية حرف، لكن فاطمة تركت في رصيدها قصائد ومواقف نقابية وشعرية تخلّد اسمها وهي الحالمة منذ طفولتها بالاختلاف والنجاح.

فاطمة بن فضيلة، انثى من نار وروح من حديد، تحدت السرطان وجعلته مسار للنجاح والكتابة، في حوار سابق لـ«المغرب» وبمناسبة العيد الوطني للمراة تحدثت فاطمة «حين اكتشفت مرض السرطان في العام 2017 قلت انني وجدت كنزا للكتابة غير متوفر للجميع، مع بداية حصص الكيميائي تعرّفت على نساء كثيرات وعرفت قصصهنّ وحكاياتهنّ وشاركتهنّ اوجاعهنّ» وتضيف «حين اكتشفت مرضي بالسرطان، في البداية خفت كثيرا وشعرت انني في نفق مظلم وتائهة وحزينة، ثمّ قررت ان الوقت لا يصلح للحزن أصلا فالسرطان ذاك الغول الذي لا نتحدث عنه، إلا همسا ونخفيه كأنه الخطيئة الكبرى، ذلك المارد الجبار الدموي، اقلم سكاكينه واكوّره تحت وسادتي كأي شيء تافه وأنام كل مساء، انا لا أقاتله ولا أصارعه ولا أحاربه، أنا فقط احيا، وساقتله مرتين، مرة لأنني احيا نكاية فيه ومرة لانّ حرفي لن يخذلني وان خذلني الجسد».

فاطمة كتبت كثيرا عن المرض، عن قصص النساء اللواتي شاركتهن الخوف، «في الحصص الثلاث الاولى كنت منهكة، لكن ذات يوم قررت النهوض من الفراش الى المطبخ وطبخت العشاء، في مرة أخرى قررت النهوض والجلوس الى الحاسوب لأترجم كتابا كنت اشتغل عليه ومنذ تلك اللحظة «بريت» وبدأت في الكتابة، أنا أكتب لـ «ا هـ» التي توفيت لعدم وجود الدواء، أكتب لـ «آ م» التي لم تجد ثمن الحافلة للعودة إلى مدينتها، اكتب لمن بترت نهودهن وتعرضن للتعنيف النفسي، اكتب لتلك التي افتك زوجها أبناءها بحكم قضائي لانها مرضت بالسرطان، التجربة حوّلتها الى كتابة لأنني قررت أن أكون صوت كل النساء المريضات بالسرطان» واليوم بعد اعوام من تحدي المرض والانتصار للنساء والكتابة لهنّ وبعد تلخيص كل ذاك الوجع في ديوان «حمالة صدر بعين واحدة» هاهي فاطمة تلحق بليلى احدى رفيقات المرض، ليلى التي كتبت لها وحملتها رسائل سلام الى شكري بوترعة واولاد احمد، هاهي اليوم تترجل اليها لتعانقها

عناق انتظرته فاطمة منذ اعوام:
«جمعنا السرطان يا ليلى ولم يفرقنا الموت
أكتب من مأتم
صديقتي في السرطان
توفيت البارحة
نهشها مثلما تنهش هذه القصيدة
كبدي الآن
المعزيات يرمقن اصابعي وهي تتحرك
فوق لوحة المفاتيح
والقصيدة تنهش أطرافي
منذ اسبوع اخبرتني أنها ستموت
لم ازرها
ماذا سأقول لذاهبة الى الموت
هل اقول لها مثلا
تدثري جيدا
الطقس بارد هناك
خذي معك بعض الكتب للتسلية
أم أرسل معها بعض المقالات
لأولاد أحمد
ورسائل مشفرة لشكري بو ترعة»

رحلت فاطمة بن فضيلة، الطفلة العاشقة والشاعرة المتمردة، رحلت من كرست حرفها لتدافع عن النساء وتكتب اوجاعهنّ، رحلت من درست الصحافة حتى تكون صوت المهمّشين والمنسيين، رحلت من مارست العمل النقابي لتكون صوت المستضعفين وتدافع عنهم بشراسة اللبؤة، رحلت الشاعرة المربية التي زرعت في تلاميذها حب الوطن والانتصار للعلم، غادرت فاطمة بعد مقاومة السرطان تاركة دار نشر وهو حلم الطفولة الذي ايقظه هذا المرض اللعين «ومن افضال السرطان أيضا احياء «لمة قديمة» وهي انجاز دار نشر، هي دار «وشمة» وعنها قالت الشاعرة « حين عرفت بمرضي تساءلت عن المساحة الزمنية المتبقية وقررت صحبة الرفقية والصديقة ليلى نسيمي تحقيق هذا الحلم وشريكتنا منيرة بن صالحة، وميزة دار وشمة انها ليست تجارية، ننشر الكتاب ونعمل على توزيعه وتقديمه هو حلم اخر لفائدة الكتّاب في تونس وتجربة حياتية اردت خوضها» وافتتحت دار وشمة في العام 2018 واصدرت مجموعة من الكتب كما تهتم بابداعات الشباب وتشجعها» كما صرحت سابقا، رحلت بعد نجاح دار وشمة في افتكاك مكانتها في مشهد النشر في تونس.

امس غادر جسد فاطمة بن فضيلة، رحلت الى عالم ارحب لا يوجد به مرض او خوف، غادرت صاحبة الابتسامة الهادئة والنصوص الجميلة، رحلت من كتبت للحب ودافعت عن الحق في الحياة:

«حين أحببتكَ أوّل مرّة
كان كلّ شيء واضحا كلغز مفتوح
لكن لفرط انشغالي بعينيك لم أنتبه
ليس هنالك حب أبديّ
ليس هنالك سعادة أبديّة
السير نحوهما هو الأبدي»

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115