«فرح يختفي في المرآة» لرضوان العجرودي: بورتريهات لشاعر واحــد

بقلم: صفاء سلولي
لطالما كان الجدل بين فعلي الكتابة والقراءة قائما: هذا الجدل الذّي يضعنا أحيانا أمام أسئلة عدّة طُبعت في أذهاننا نحن القرّاء وفي أذهان الكتّاب أيضا.

إنّ الكاتب المبدع يخرج النصّ من ملكيّته الدّلاليّة بفعل النّشر: أي أنّه قد يقصد دلالات معيّنة محدّدة لحظة الكتابة أو ما يمكننا تسميتها الولادة الأولى للأثر، ثمّ تأخذ اتجاهات تختلف باختلاف القراءات والمقاربات التّي اشتغلت بمنتوجه الإبداعي وقد تكسبه معاني لم تعنّ بالمرّة لصاحبها لكن النصّ يقبل ذلك التكثيف المعنوي كلّما انتقل من مقام إلى آخر.

أمّا بالنّسبة إلى القارئ على تنوّع هويّاته ومرجعيّاته فهو يحفر في ثنايا الصفحات ويبحث بين كلمات الأسطر عن الأنا الكاتبة: ماهي حدود حضور الذّات الحقيقية في الأدب نثرا أو شعرا؟ وهل يتحدّث الأديب عن ذاته أو عن ذوات أخرى؟ إلى أيّ حدّ يتواجد الواقع في عمله؟
وهذه الأسئلة لم تبق حكرا على السرديّات السيريّة التّي تصرّح بانتمائها إلى جنس السيرة الذّاتية أو ما يعرف بأدب التّراجم فحسب، إنّما تعلّقت بكل أنواع القول الأدبي حديثا وقديما.
في هذا السّياق تتنزّل قراءتنا لديوان «فرح يختفي في المرآة» للشاعر التّونسي رضوان العجرودي محاولين تلقّف هذا الفرح باحثين عن بورتريه لمبدعه أو بورتريهات هي تتفرّع من أصل واحد إلى ذوات: الطفل، الرّاشد، الشاعر والكتابة، التجاذب بين الأنا وهم وهي وهنّ، في نظرة مميّزة للعالم والعولمة والحرب.

يعترضنا الإشكال التّأويلي منذ عتبة العنوان التّي تمثّل نقطة اللّقاء الأوّل بين الهويتين الأساسيتين الكاتب/القارئ: لماذا اختار الكاتب عنوان «فرح يختفي في المرآة» لهذه المجموعة الشّعريّة؟
قد يكون الفرح مكشوفا عادة في الجسد أو في الإطار الذّي استوعب ذلك الجسد، بتفاصيله من بهجة ورغبة وموسيقى: بذلك الخطاب المشبع بالحواس أو بالروحانيّات.
لكنّه فرح خاص يختفي... ليس وراء حجاب بل في المرآة، وهو اختفاء استثنائي لأنّه يُرى ربّما بتجلّيه أمامنا في صور للفرح الفردي أو الجماعي في بورتريهات مختلفة لا تقدّم الفرح دائما، فقد تعرض الخيبة أحيانا.
انتخب الشّاعر لكتابه نصّا للتّصدير نراه في غاية الأهميّة، إذ انتصر لتلك التوليفة من الثنائيّات المبنيّة على التّناقض بين الشّوك والأرجوان «فخرج يسوع خارجا وهو حامل إكليل الشّوك وثوب الأرجوان.فقال لهم بيلاطس»هو ذا الإنسان» يوحنا 19/16-1
وما الكينونة إلا ذلك الحضور في دوائر أزواج من المعاني، معان تقوم على الأمر وضدّه الجمال والقبح والخير والشرّ والحبّ والكره والأمل واليأس: وقد يكون الزوج الأهمّ في هذا الكون هو الأنثى والذّكر ليس بالمفهوم الجنسي المتوارث إنّما بأكثر عمق، وشاعرنا يرغب حتّى في «الملل الأنثوي» ضجرا من الذكورة المملّة في بعض الأحيان.

الطّفولة، الأمّ والمدينة والفطام:
افتتح الشّاعر ديوانه بقصيدة خاصّة عنونها بحكاية لا تعرفها أمّي، فاستعمل معجم الطبيعة متشبثا بشجرة اللّوز والحصاد والسّنبلة ناظرا فيما علّمته أمّه من «إشعال النّار وحلب الشّاة وذبح الدّجاجة» وهذا الاحتفال بالحياة في وجهها البكر طبيعة ورضاعة وحبّا وطفولة، يمثّل الخيط النّاظم لنصوص هذا العمل.
هذه الأمّ قد «قطعت حبل السرّة بأسنانها»، دون أن تنجح الذّات الشّاعرة ربّما في بلوغ مرحلة الفطام الفعلي. فبقيت سجينة الذّكرى أو الحنين إلى الماضي، ماضي الطّفولة حيث يوجد الـ«قاجو» أصفر وكان ذلك الطّفل يرتاح واضعا رأسه على ركبة أمّه.
هي لعلّها لا تعرف أنّه مازال هناك تحت شجرة اللّوز رغم أنّه اقترب من المترين طولا. ومازال يحتفظ بتفاصيل البلاد والعباد والعقيدة في مدينته التّي لم تغادره كما غادرها ولم يعد يزورها إلاّ نادرا غير أنّ أثرها قد انساب فيه مثل المعين الذّي لا ينضب، و قد وسمت رشده وتمثّله للأشياء ،وهو يسرد علينا «حكاية من النّبع».

كما نجده في مناسبات عدّة يشي بالطّفولة وقد كان «خرّيج مدينة غامضة» مدينة بسيطة «حيث الجميع يعرف أدقّ التّفاصيل عن بعضهم» البعض، وحيث لعبة الأطفال المحبّذة تتمثّل في سرقة التّفاح التّي تترك في أجسادهم الصّغيرة آثارها وشما نتيجة «جروح أغصان الأشجار» وحيث تبرّر الأمّهات رسوب أبنائهنّ وكلّ الأخطاء بحجج لا تخترعها إلاّ الأمومة وقد تقبلها الأذهان تعاطفا «تحت قمر تطاوين» مدينة الطفولة التّي نشأت في ظلّ مجموعة من الخرافات لعلّ من بينها أنّ القمر هو «امرأة علّقت من ثدييها...لإهمالها ولدها...».
وهل تهمل المرأة وليدها؟ نستبعد ذلك.... لكن هذا الضمير الذّي يخاطبنا قد قضى «ليال فاتحا « فمه «لقطرة حليب دافئة» تشفي صداه وهو المتشوّق لحليب أنثوي بقي عالقا في ذاكرة حواسه.
حليب امرأة القمر العجائبي لم ينعم به هذا الطفل الكبير الذّي ولد في «مدينة خجولة» كان «يرسمها بوضع علب الكبريت بجانب بعضها وهو يقول:
«لم نكن حفاة عراة، لكنّ التبوّل من برد المدينة كان تعبيرا جماليا
لو كان التبوّل في الشّوارع والسّاحات عملا ثوريا

فنحن ثوريّون حتّى المثانة»
لم ينس أن يحدّثنا عن خطواته وهو يختبر المراهقة طفلا يتوسّل «العلكة التّي طمس بها رائحة سجائره الأولى عن أبيه» و «قدّمها رشوة ثمينة لأترابه كي يمحوا اسمه من السبورة حين صار طالبا» وقد «كانت سلاحه الخفيّ كي يظهر مثل أبطال الويسترن» و»يخيف بها أصحاب النّدب العميقة.
وعندما بدأ يسير في «طرقات الغريب» لم يغب عنه «دعاء طازج» أوصته به أمّه مفاده أن يلقي بالتّمر من نافذة القطار تميمة ربّما أو تبرّكا بثمار بلدته في الجنوب حتّى لا يضيع وسط زيف المدن المكشوفة.وهو الذّي قد مضى قدما في رصد مسالك أخرى تفوح منها رائحة العرق في «سكّة قطار تشتكي ألم المفاصل وربوا في أنفاقها» تعبا ووهنا، وحينها تشكلت عنده «أوّل صورة للرّاحلين»: والرّحلة قد تكون اختيارا حينا واضطرارا حينا آخر، ومغامرة وجوديّة تحاول جمع شظايا الذّات وبعثها من رمادها تاركة خلفها أنهارا وأخاديد،أو ميلاد ذات جديدة بعد أن قضت أغلب حياتها سائلة «حتّى فاضت» الجيوب بالأسئلة.

علاوة على ذلك، كان في غاية الطفولة في نصّ «هاتف إلى اللّه»:فكشف لنا عن ذلك الطفل الذّي يكون، وعجزه على أن يعتقد في ذات سرمديّة مفارقة متعالية مختفية بل لعلّ الذّات الإلهية كذلك هي ضرب من ضروب الفرح المختفي في المرآة، والمرآة التّي تعكس هذا الفرح: هو ذلك الفنّ، فن الخلق الموجود المبثوث في رحم الطبيعة ألوانا وأشكالا وأنواعا وأجناسا وأذواقا:

«يا إلهي، أتسمعني؟
أخبروني أن لا أولاد لديك
وأنّك تعيش وحيدا في سرمديتك
توزّع الحلوى التّي نظنّها شهبا
وعصيرا تسكبه في أفواه الأكوان نراه من هنا قوس قزح
أنا أيضا وحيدا في سرمديّة غرفتيكلبي مات بالأمس، ونباحه يلعق أذني
لي نافذة تطلّ على نهر ينبع من عين سرمديّتك
يصب في دلوي المثقوب
سأكون صديقك لو تقذف لي الحلوى»
الأنا/ هم، الحرب والوجع:

ونحن نتقدّم في تلقّي هذه الأشعار، ينتقل بنا الكاتب من بورتريه الطفولي إلى بورتريه البالغ الرّاشد دون مغادرة مضجع الصّبا تماما، في توجيه إصبع الاتهام لكلّ ما من شأنه أن يسرق الفرح من آدميتنا انطلاقا من الحرب هذا الفعل البشع القبيح: فيتخيّل رضوان العجرودي في قصيدته «ق» أن تكون الحرب لعبة طفولية تنتهي بغضب الأطفال من بعضهم البعض وإعلان الخصومة فيعمّ السّلام والسّكينة.والحرب لم تكن حرب الدبابات والبنادق فقط بل حرب العولمة وزيفها في هذا العصر المشوّه الذّي قد أشعره بالتوحّد فصار يتمرّن في « الوديان والغابات» يطوّع أطرافه «للركض بلا انقطاع» . ولا يغيب عن هذا البورتريه ذلك الجدل بين أنا وهم:

«أنا ما بقي من ماء اسفنجة بعد عصرها
مهمّتي التقاط فتات الطّاولات محبطا النّمل قبل
خروجه
مسح خيبة انتظار الوحيدين في مقاهي الشّوارع
الخلفيّة
أيضا، أنظف المرآة، كي لا تحبط امرأة في الأربعين»

الإسفنجة تجتهد ساعية لتشذيب كلّ المشاهد اليوميّة الرّكيكة، كي تنطق صوت الفرح المكتوم وقد أراد صاحبها أن يصبح نهرا،في بلد كثر فيه تجار الدّين، في بلد أصبح التكفير فيه ممارسة عاديّة، في بلد استبيحت فيه الدّماء، ينتصر العجرودي للحانات الآمنة التّي لا تعرف النّفاق، متعاطفا مع المشرّدين والمنتسبين إلى «مناجم الفقراء» و «متحف المخذولين».

وكأنّنا بهذا الشّاعر يتعاطف مع كلّ المظلومين في عصره، فقد احتفل بالإنسان في كونيّته. ولم يبق في جغرافيّته المحدودة فقط، فكان يكفر بعبثيّة الحياة والثّروة التّي تكدّست في جيوب وغابت عن جيوب أخرى وبالبطون المنتفخة مقابل أجساد نحيلة وبأصوات مزعجة طغت، مخرسة للأصوات اللّطيفة.
الأنا والمتخيّل، أنا المعرّي:

لعلّ شاعرنا كغيره من أسلافه الشّعراء يؤمن بنبوّة الشّاعر، بل هو ذلك الحامل لهموم جيله وآدميّته ووعيه مسلّطا الضوء على مواطن الخلل في واقعه: فهو يذكّرنا بالمعرّي في رسالة الغفران حين أقام يوم القيامة وجعل القوم يمرّون على الصّراط وصنع جنّته وجحيمه المتخيّلين، فالعجرودي رحل بنفسه إلى جهنّم وأرسل منها رسالته إلينا،محافظا فيه على عادات دنيويّة تتمثّل في الوصول إلى المكان متأخّرا، لكنّه ليس الجحيم الذّي كان يظنّ ربّما : جحيم مشحون بمن كانوا أحياء فعلا في الدّنيا (رفقة طيبة وسمر ونقاش وخمر وحلم وعبور) لم يعثر على ذاك الجحيم الجميل المغري حيوية وخلقا وعقلا، ليجد المنافقين وأهل النّكد و»شهداء على وجه الخطأ» (هويّات ناقصة عرجاء يمقتها ،وكان يعتقده أنّ مآل هؤلاء هو الجنّة. لكن قد خاب اعتقاده.)

في جوهر هذا الدّيوان، نصّ هو نفسه كان عنوان الكتاب «فرح يختفي في المرآة»، يناجي عبره الشّاعر الحياة والسّعادة مستعيرا لهما صفات المرأة المتغزّل بها: المرأة الحبيبة، المرأة المعشوقة، المرأة المطلوبة: فيطلب من الحياة الزواج «ولو ليلة واحدة» طمعا في مضاجعة الحب ومن السّعادة حضنا «ولو لفصل واحد».

والطريف أنّه خاطب الخيانة مخرجا إيّاها من دائرة الصفات المنبوذة المستهجنة، لتكون الخيانة فرصة لإقناع الحبيبة «أنّ غيره يهتمّ لأمري». فيبعث فيها شرارة الغيرة ويحمّس عواطفها.
الأنا، هي/هنّ والحبّ:

إنّ الشّعر رغم تلوّنه بكل المواضيع المتعلّقة بالإنسان والوجود، فإنّه يبقى في أذهاننا أقرب إلى المشاعر والشّعور والعاطفة والهوى.والحب مبثوث في أسطر هذا الأثر: حب الجمال، حب الأم والإنسان والسلام والخمر والحياة وحب جمال القبيح تبوّلا وموتا وانتحار وجروحا.
لكن الحب الذّي سنقرأ في هذه المرحلة من قراءتنا هو بين ابن من أبناء آدم وبنات حواء المتعدّدات، وقد ينطلق عبر ''حركة فاسدة» تتحوّل إلى حب صوفيّ يصل إلى درجة الحلول فكأنّه الحلاّج وقد حلّت فيه ذات مقدّسة نقيّة لا دينيّة لكنّها تشبه الفرح في كلّ الأديان مثل «قوس قزح» ، وهو حبّ وفيّ لعصر العنكبوتيات «البارحة وما قبلها كانت صورة عبر الأثير» و «اللّيلة جاءت بأبعاد ثلاثة» وكانت حريقا «وعطرها رائحة احتراق الصدى» .
كلمة الحبّ عند هذا العاشق «فقاقيع برائحة اللّيمون» «يواسي خوف غزالة « وقد «يمسح دمعة فيل» والحب أيضا هو «مهنة الأمهات» وحب الاختلاف والقبلة المشتعلة بين جسدين عاريين في الفلاة، هو ترديد للأغاني الغجريّة، و هو وشم لا يزول عن الجسد والرّوح.
هو كريم في الحب فلا يريد ل»حبيبات الظلّ» أن يشتكين الوحدة «وشحّ الحب في عيونهنّ» فأكرمهن بالغزل الدافئ تلبية لنداء الأنثى التّي تحب أن تكون حبيبة ومحبوبة حتى عبر الكلم.

الأنا، الشّعر والكتابة:
منذ القديم كان الإنسان يخشى حتميّة الموت والنسيان ويشقى بسبب مأساته أمام اللاّمعنى والخواء.إذ يخلق في هذا الكون دون اختيار وقد يغادره أيضا دون اختيار، وهي مسألة تشعره بالقلق والعبث. ولعلّ هذا المشكل هو الذّي جعله يخترع طرائق لكسر شوكة هذه الأمور المفروضة عليه، ومن بين هذه الطرائق نذكر الكتابة بكل أنواعها.
ومن بورتريهات العجرودي، الأنا شاعرا كاتبا أراد عبر الكتابة أن يطلق سراح ما حبسه في فؤاده في غفلة من رقابة المجتمع في «اقتحام فاشل»:
«الكتابة أشبه بسرقة بنك
عليك أن تدخلها متخفيّا»

الكتابة عنده ترادف فضح كلّ تخفيه الملابس الأنيقة ومساحيق التجميل وربطات العنق ومعاهدات السّلام، فعرّى العالم: طبقيّة واستعمارا وعنصريّة وسرقة وأنانيّة. عالم يتسع للبعض ويضيق بالبعض الآخر، أبنية عالية ناطحات سحاب تخفي الشّمس عن أهل الحياة أصحاب الأرض الحقيقيين. أراض تتآكل وأخرى تتسع: كلّ هذا في نظام العولمة المجيد حيث الإنسان لم يعد هو الإنسان:فكان عمله عبارة عن فسيسفاء من البورتريهات.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115