مرايا وشظايا: في معرض «تونسيات»: عاملات الفلاحة تستحقن أكثر من صورة لا تشبههن !

«هن العاملات، حارسات الأمن الغذائي. حافظات تاريخ السنبلة وكاتمات أسرار الأرض. هنّ التفاني: قريبات من الحياة وأكثر قربا من حافة الموت في الطريق إلى البستان.

هن سرديات العطاء الكثير والأخذ القليل.» بهذا التقديم الأنيق والجميل احتفت وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن بالعاملات الفلاحيات في معرض «تونسيات».
هو « اعتراف رمزي بسيط « على حد تعبير الوزيرة آمال بلحاج موسى إلى نساء تونسيات في كل المجالات مشين على الجمر واقتلعن الشوك وقطفن من القمر النور ليكتبن ماضي تونس وحاضرها ومستقبلها .
هي مجموعة صور جاءت في شكل طوابع بريدية مرفقة ببورتريهات مكتوبة في أسفلها على غاية من الرشاقة اللغوية من ألفها إلى يائها أثثت معرض «تونسيّات» الذي تنظمه وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السنّ بقاعة الأخبار بالعاصمة . ويأتي تنظيم هذا المعرض بمناسبة العيد الوطني للمرأة (13 أوت) بالتعاون مع الديوان الوطني للبريد لتكريم 22 امرأة تونسيّة «تميّزن بريادتهنّ وإلهامهنّ للتونسيّات عبر التاريخ وفي شتّى مجالات النضال النسوي».

في منتهى الجمال والشموخ والكبرياء، تطالعنا وجوه نساء هزمن الضعف وصنعن العجب فكتبن بحروف من ذهب أسماء وأسماء على غرار الجازية الهلالية وسعيدة الجلالي ورجاء بن عمار وعروسيّة النالوتي ومية الجريبي وأنس جابر ونعمة وفاطمة الحداد وزينب فرحات...
ولئن نجح معرض «تونسيات» في جمع شتات الذاكرة النسوية في كل الميادين وعبر الحقب التاريخية المتعاقبة التي عرفتها تونس منذ الماضي البعيد إلى اليوم ، الآن وهنا ... فإنّ صورة واحدة أفسدت هذه المتعة الجمالية والبادرة الرمزية.
طبعا يستحق تكريم «نساء الظل» المنسيات وراء جبال متاعبهن ومآسيهن على غرار «زعرة السلطاني» كل الإشادة والتنويه ولكن الطابع البريدي الذي يحمل صورة المرأة الفلاحة لم يكن بحجم الانتظارات !
على عكس بقية الصور، وحدها صورة المرأة تدير ظهرها إلينا بلا وجه، وبلا لغة عيون أو دلالة ملامح.. لم يظهر منها سوى غطاء رأس طويل وصرة محمولة على الكتف. هي صورة من الخلف لا تشير صراحة إلى عاملة الفلاحة، ولا تحمل أي علامات تحيل إلى العاملات الفلاحيات ، فلا حرث ولا زرع بين يديها، ولا فأس ولا منجل...

كان من الممكن اعتماد صورة امرأة تجني حبات الزيتون ليتحول بين يديها إلى ذهب أصفر، أو الاشتغال على صورة امرأة تقطف سنابل القمح ليصير «رغيفا للفقراء وكعكا للأغنياء» ... كما كان من الممكن اختيار صورة حقيقية لعاملة فلاحية نجت من موت محقق في حوادث الخطر التي عصفت بأرواح نساء كثيرات في الأشهر الأخيرة في حوادث مروعة. ولن يلوم أحد عن اختيار امرأة دون سواها لأن معاناة عاملات الفلاحة واحدة ومأساتهن مشتركة ودموعهن من الوجع والتعب في أيام الحر والبرد بطعم الملوحة ذاتها !

ومن صدف القدر أنه بالتزامن مع تكريم العاملات الفلاحيات في معرض «تونسيات»، قضت حتفها أمس الجمعة 12 امرأة تعمل في المجال الفلاحي في حادث مرور في ولاية سيدي بوزيد بعد انقلاب الشاحنة التي تقلها ورفيقاتها إلى الحقل. ولا شك أن هؤلاء النسوة الحانيات الظهر والرأس في شكوى للتراب من قهر الزمن يحتجن من وزارة المرأة تحركات شجاعة لإيقاف نزيف موتهن على قارعة الطريق بسبب شاحنات تحشرنهن كل صباح ومساء كالمواشي فوق الحمولة القانونية ودون قيم الإنسانية بكثير !

لن تسعد عاملات الفلاحة صورة مبهمة في معرض بعيد عن عيونها ويومياتها المنهكة شقاء بل إنّ المساواة في أجرها مع الرجل وتمكينها من حقوقها الاقتصادية والاجتماعية هو الذي سيجعل هذه المرأة الكادحة ترفع يديها الخشنتين بفعل الكد والكدح شاكرة وممتنة إلى السماء. هذه السماء الشاهدة على قصة نضال في كل الفصول من أجل ملاحقة قوت العيش حتى لو كان الثمن الموت !

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115