مسرحية «السلطة الرابعة»: ارتعاشة سطوة القلم أمام سلطة النظام !

«إنّ الكلام على الكلام صعب»، والكتابة الصحفية عن السلطة الرابعة أصعب بكثير. من أين نبدأ؟ وكيف ننتهي؟ ترتعش الأصابع

وتتبعثر الأفكار في محاولة قراءة موندرام «السلطة الرابعة» وهي التي تبحر في موج «صاحبة الجلالة» وترسي عند مرافئ الصحافة المكتوبة بكل ما يعتريها من متاعب وأحلام وأمان... إنها الحيرة ذاتها التي انتابت بطل المسرحية «علي الشامخي» وهو يحبّر أول مقال له في مسيرته المهنية لتمضي فصول العمر بين حبر وورق، نصر وأرق، ألم وأمل ..
في العرض ما قبل الأول لموندرام «السلطة الرابعة»، اكتظت قاعة الفن الرابع بالعاصمة بالحقوقيين والصحفيين والمسرحيين... الذين دفعهم الفضول لاكتشاف هذه المسرحية التي وقعها الثلاثي عبد القادر بن سعيد وخالد هويسة وناجي الزعيري في كتابة النص، عن فكرة للصحفي ناجي الزعيري وأداء لخالد هويسة وإخراج لعبد القادر بن سعيد.
ناجي الزعيري كاتب مسرحي بقلم صحفي
عند الدخول لمشاهدة عرض «السلطة الرابعة» كانت أسئلة كثيرة معلقة على حائط الاستفهام. لعل أولها كيف أتى ناجي الزعيري من مهنة الصحافة إلى خشبة المسرح؟ وماذا عساه أن يحدثنا عن مهنة المتاعب بلغة الفن الرابع؟ وهل يمكن لأبي الفنون أن يستوعب عوالم السلطة الرابعة؟
هي تساؤلات لا تلبث أن ترفع عنها الحجب بالتدرج أكثر في الفرجة، والتورط كثر في اللعبة... اللعبة المسرحية !
في تقاطع مع بعض من السيرة الذاتية والتقاط لشظايا الذاكرة والذكريات، لاح طيف ناجي الزعيري في شخصية «علي الشامخي»، بطل المسرحية وذلك الفتى الحالم الذي جاء إلى العاصمة قادما من القيروان طلبا للعلم والمعرفة في رحاب «صاحبة الجلالة».
لم يكن هذا الشاب غرا، مفتونا بمتع الدنيا ودهشة العاصمة بل كان مثقفا ومدمنا على المطالعة وحاملا لخلفيات ثقافية وإيديولوجية وسياسية عمقتها الحياة الجامعية وحماسة الشباب في ساحة المظاهرات وقاعات الاجتماعات... وراء حلمه في أن يصبح صحفيا مشهورا، سار بطل المسرحية في مباركة من « أماني « الحبيبة لقطف أمنيات العمر.
انتهت سنوات الدراسة، وصار طالب الجامعة صحفيا في إحدى الصحف اليومية . ولكن بين سقف الأحلام وإكراهات الواقع، كان البون شاسعا بين التصور التطبيق. فلا مكان لمواضيع تقلق مضجع السياسيين أو تثير السواكن أو تحرك المياه الراكدة... لكن جذوة الأمل في التغيير لم تنطفئ في عيون الصحفي «علي الشامخي» فإذا به يتجرأ ذات يوم على نشر تحقيق حول «معضلة شركات التسول في بلد السياحة». وكان هذا المقال بمثابة اللعنة التي قادته إلى غرفة التحقيق كما أخرجته من ثوب الصحفي الحر والشريف ليصبح بوقا للنظام ورأس المال.
انقلبت حياة بطل المسرحية رأسا على عقب، فحصد الشهرة والثروة. وبعد الثورة، لم يدفن رأسه طويلا كالنعامة في الرمل حتى تمر عاصفة وينتهي الزلزال، بل سرعان ما «قلب الفيستة» على سبيل المجاز والحقيقة على خشبة المسرحية ... وخرج إلى الشارع بخطاب على مقاس الظرف الجديد!
خالد هويسة... كاريزما لم ينسها المسرح
تتعدد الدوافع التي تحرضنا على اكتشاف موندرام «السلطة الرابعة»، ومنها التعرف على خالد هويسة ممثلا مسرحيا من جديد فقد عرفناه ممثلا مقنعا ومبدعا على شاشتي الدراما والسينما. بعد أكثر من 10 سنوات، عاد هذا الفنان إلى الفن الرابع من وراء خشبة «السلطة الرابعة». ولا شك أنّ هذه العودة كانت بحجم المغامرة في المراهنة على فكرة رجل إعلام ونص مشترك بإمضاء الصحافي ناجي الزعيري والممثل خالد هويسة والمخرج الشاعر عبد القادر بن سعيد. ولاشك أيضا أن الاقتراب من أبواب السلطة الرابعة وتجسيد شخصية الصحفي لم يكن بالأمر السهل، فبين الجمهور يجلس صحفيون يمارسون المهنة، وقد لا يغفرون أي هفوات أو عثرات.
على الركح وقف خالد هويسة وحيدا في مواجهة جمهور في صيغة الجمع والتعدد في الرؤى وزوايا النظر... فكانت مسؤوليته أكبر في الوصول بالمسرحية إلى بر الأمان. لقد لبس هذا الفنان أكثر من شخصية وهو يؤدي دور الصحفي «علي الشامخي»، فتنوّعت نبرات صوته وحركات جسده وإيماءات وجهه دون أن يفقد البوصلة ويضيع التوازن بين الحوار المكتوب والنص غير المنطوق.
من الواضح أن ناجي الزعيري قد أبلغ الفكرة بمنتهى الصدق والشفافية، فأدرك خالد هويسة بكثير من الفطنة والذكاء المقصود، فصعد على الركح بخطى صحافي أمضى سنين العمر في نضد الحرف تلو الحرف حتى يمتلئ الورق الأبيض بكلمات وأفكار وعصارة فكر أجهده التفكير ومحاولات الكتابة وإعادة الكتابة حتى تكون الولادة العسيرة لمقالات الجريدة. كل هذه الانفعالات والمعاناة وحتى الانكسارات بسبب سقوط اسم الصحفي في آخر المقالة، استطاع خالد هويسة أن ينقلها بكل أمانة وإقناع. فوجدنا نحن أبناء الصحافة المكتوبة بعضا من أنفسنا وهواجسنا وعثر الجمهور العريض على المتعة المنشودة فصفق لأداء خالد هويسة طويلا ... طويلا !
عبد القادر بن سعيد مخرج بعيون الشعر والشاعرية
لم تغب الشاعرية عن ركح «السلطة الرابعة» سيما وأن المخرج عبد القادر بن سعيد كان يمسك بين يديه مهارات التأليف والشعر والتمثيل... فجاء الفضاء الركحي موغلا في البساطة الجميلة. اكتفى المخرج بوضع مشجب لتعليق الملابس ومرآة كبيرة تتوسط الخشبة، وكرسي أحمر مريح وفانوس صالون باللون الأحمر ... وقد خلق تكثيف اللون الأحمر في تضاد مع عتمة اللون الأسود جمالية ركحية ومتعة للخيال والحواس. وتتعدد تأويلات هذا الخيار الفني والجمالي ، فربما أراد المخرج أن يشير إلى مشاعر الثورة والرغبة والطموح عبر طاقات الأحمر. وقد يحيل ضوء الفانوس إلى نور الحقيقة الذي تنشده الصحافة الحرة في كل الأزمنة والأمكنة. وليس الكرسي سوى صديق الصحفي الوفي الذي يرافقه في صباحه ومسائه ، شبابه وآخر محطات العمر. أما المرآة فهي الأداة لنرى أنفسنا على حقيقتنا ونحن عراة من الأقنعة والمجاملات ومساحيق التنكر للمبادئ والأخلاق...
في مرجعية سينمائية، أجاد المخرج عبد القادر بن سعيد توظيف تقنية «الفلاش باك» في ربط بين الماضي والحاضر ، انطلاقا من فترة حكم بن علي وصولا إلى زمن الثورة في 2011 والتي أعلنتها أغنية آمال المثلوثي «كلمتي حرة»، والمسرحية على وشك الانتهاء ووداع جمهورها.
دون استسهال لفن الموندراما وببالغ الاحترام لأبجدياته وطقوسه، تمكن عبد القادر بن سعيد من قول الكثير في زمن وجيز من خلال بطله خالد هويسة ومن خلال الاشتغال الجيد على الإضاءة وتوزيع المشاهد والمؤثرات الصوتية، فكانت «السلطة الرابعة» موندرام يستحق المشاهدة.
بعيدا عن محاكمة «السلطة الرابعة» بسبب اختيارها تقديم صورة الصحفي القابل للبيع والشراء والتي تبقى رؤية فنية حرة ومشروعة ولا تمثل كل الصحفيين طالما أنها لم ترفع شعارات التوثيق والتأريخ، فإنّ العرض ما قبل الأول قابل لبعض التنقيح والتعديل، من ذلك انغماس الممثل خالد هويسة في الدور ونسيانه للبطاقة المهنية في يده والحال أنه يحدثنا كيف أن زميله «شرف الدين الزموري» يقلب باقة الصحفي المحترف بين يديه مستهزئا. كما نسي كأس الشراب بين يديه وهو يراقص السيدة البورجوازية... ويبدو أن الفصل الأول من المسرحية الذي يتحدث عن الصحفي الشاب المتوقد حماسا ورغبة في التغيير كان أكثر حبكة وتأثيرا في الجمهور، ليكون الفصل الأخير هو الحلقة الأضعف. وكأنه انعكاس للثورة التونسية التي أتت على عجل وكأنها بدورها مسرحية مرتجلة أربكت حتى «السلطة الرابعة» !

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115