معرض السيدة المنوبية لسمية الزياني في الفضاء الثقافي الطاهر الحداد: الريشة تلتقط سيرة إمرأة وسيرة وطن

تكتب النساء سير المدن، تصنع النساء اسرار المدن وتلوننها بأجمل الحكايات، كل القصص المتناثرة والأسرار المخفية التي تخبئها الجدران والقباب تلتقطها ريشة سمية الزياني

وتمزجها مع حكايتها الخاصة وعلاقتها بالمدن وترسمها في لوحات تشكيلية تتماهى فيها الروح مع الرغبة في البحث عن طريق الجمال والاختلاف.
في بهو النادي الثقافي الطاهر الحداد تتوزع اللوحات في معرض السيدة المنوبية تغري الزائر بقصص المدن وحكاياتها، تدعوه لمزيد البحث عن خبايا قصص الرموز المتقنة الرسم، فسمية الزياني فنانة تشكيلية لها بصيرتها الخاصة في تحويل الحكاية الى خط وحركة، لها رغبة جامعة في صناعة عالمها التشكيلي الموشى بأجمل الالوان وفي رحاب المدن يحلو العشق والسمر.
العمارة تتحول الى إلياذة تشكيلية
تأسرك المدينة العتيقة، من باب بحر الى نهج جامع الزيتونة اصوات صانعي النحاس وموسيقاهم التي تنتشر في الفضاءفنهج سيدي بن عروس وجمال الوان الشاشية المعروضة للمارة، رائحة البخور في العطارين، الى بطحاء حمودة باشا ثم نهج التريبونال اين يوجد الفضاء الثقافي الطاهر الحداد، كل تلك الصور الجميلة المكونة للفضاء ستجدها مرسومة في اعمال سمية الزياني في معين المعرفة ومقام السيدة واقوال وثنائي النفوذ والخشوع وابواب الحلم وسيدة البلاط ومقام السرّ وغيرها من اعمال تشكيلية تعيد تشكيل ملامح المعمار والتراث.
في «ابوب العرش» تتداخل الالوان منحنيات تصنع شكل ابواب كبيرة الحجم مع ملامح لطرق فرعية، ابواب تكبر تدريجيا تصنعها الزياني بمزج البني والاخضر ومسحة من الازرق والأبيض هي الوان تونس المحروسة فالبني لون التراب لون الانتماء الى الارض فمنها استمدت السيدة المنوبية شموخها والأزرق امتداد البحر غير البعيد عن المدينة الحفصية والخضرة ترمز الى الاعلام المرفوعة فوق الزوايا فالمدينة تزخر بالقباب الخضراء الجميلة وفي داخلها حكايات كثيرة بعضها حقيقي وأكثرها صنعته المخيلة الشعبية الموروث العمراني لمدينة تونس العتيقة تشكّلت خصوصياته وطابعه المميّز بفضل الذوق الجمالي الذي تمتّعت به السيدة المنوبية، ممّا جعلنا كفنانين تشكيليين نتأثّر بها، وذلك عبر عهود قديمة، وهي التي أثّرت فيّ شخصيا أيما تأثير في أعمالي الفنية، والغوص في تاريخ نشأتها جعل المعرض يطرح فلسفة فنية وجدلا تاريخيا يجمع بين العلم والصوفية كمجال فني روحاني له تأثير عميق في وجداني الشخصي.
ساحرة هي الجولة في المدينة العتيقة، تتداخل الصور بين الابواب الموشاة بأجمل الالوان وتلك الاسوار العالية والمنازل التاريخية وبين ما تشحن به العين في اعمال سمية الزياني، بين المعرض واللوحات انسجام وتناسق وكأننا بريشة الفنانة تجربك لاعادة الجولة في المدينة ومزيد اكتشاف حكاياتها والوقوف امام الابواب مرة اخرى لاعادة النظر اليها من زاوية فنية ومحاولة البحث عن سر ذاك الانسجام بين الاصفر والبني والاخضر المنتشر في انحاء المكان.
اثناء مشاهدة لوحة «خشوع» ستجدك تبحث في داخلك عن تلك الانحناءات المرسومة على الأبواب تتبع اصوات الاذان وتحاول احصاء عدد المآذن، تنسجم مع موسيقى الجوامع باختلاف نسقها الصوتي، تنصت للتكبير ملتحما مع اصوات الباعة والمارة وأسئلة زوار المدينة فتكون موسيقى مميزة وحدها المدينة العتيقة تستوعب جماليتها في «خشوع» حتما ستنصت بأذن العاشق لكل الاصوات وترحل مع جمال القباب وتبحث عن عدد الجوامع الموجودة وتاريخها ومدى عمقها في التاريخ التونسي، ستحاول معرفة شكل الصوامع والى أي عهد يعود، فللحفصيين طريقة في التشييد تختلف عن الاندلسيين ولكل عصر جوامع تميزه، ولأننا في رحاب العوالم التشكيلية النسائية حتما ستبحث الذاكرة عن جامع «الهواء» الذي بنته الاميرة عطف زوجة الامير ابو زكرياء الحفصي هكذا تبوح لوحة «خشوع» ببعض الاسرار التي ابدعت سمية الزياني في التقاطها.
السيدة المنوبية لوحة تشكيلية وفسيفساء لونية حرة
سحرتها المدينة العتيقة، انتشت بألوانها وشربت الكثير من حكاياتها وصنعت منها عالما التشكيلي، انتصرت لنفسها وللمرأة من خلال سيرة امرأة قوية ومختلفة هي عائشة المنوبية تلك المراة العالمة التي استطاعت تحدي مجتمع ذكوري ومحافظ بالعلم والثقافة، تلك المرأة التي نعتها كثيرين برائدة الحركة النسوية احبت سمية الزياني سيرة نضالاتها فرسمتها، رسمت الامكنة التي عايشتها السيدة المنوبية، التقطت الالوان التي شغفت بها اسرار المدينة المخفية فحولتها الى عالمها الابداعي لتكون «معين المعرفة» لوحة وهي الوجه الفني للسيدة المنوبية، نبع من اللون والخطوط تتمازج لتكتب سيرة عشق وجمال.
تدعوك لزيارة المدينة ومنها اكتشاف حكايتها وقصص من مروا بها، تشجعك بألوانها على زيارة مقام السيدة المنوبية وإعادة اكتشاف الفضاء لونيا وتشكيليا، ذاك الباب الاخضر المفتوح لطالبي المعرفة والرحمة، تلك الجدران الشاهدة على ثقافة امرأة تونسية شامخة تحدت الملوك والعلماء وصنعت مجدها، ذاك «الخلال» الصغير الذي يرمز الى الشموخ ومنه الزينة المختلفة الاحجام والألوان، كل التفاصيل الموجودة في مقام السيدة صنعت منها الزياني لوحتها «مقام السيدة» ومنه اخذت اسم المعرض، فالسيدة المنوبية ليست مجرد امراة والعمارة ليست مجرد خطوط كذلك اعمال الزياني بحث في الذاكرة الشعبية والتراث اعادة كتابة لجزء من التاريخ بريشتها العاشقة فالسيدة المنوبية كان لها الفضل، باعتبارها شعلة للجمال والإبداع، على خصوصية العمران بمدينة تونس حينذاك، ممّا أضفى تميزا على الطابع العمراني الأصيل لمدينة تونس العتيقة إلى يومنا هذا، وهو ما أردت إبرازه في لوحاتي التشكيلية المقدّمة في المعرض كما تقول الرسامة.
لوحة اخرى تجذبك اليها «مقام السرّ» قد يكون المكان الذي اعتكفت داخله السيدة تناجي روحها وتبحث عن سلامها النفسي، الوان هادئة مع قليل من الاصفر في دلالة الى الامل والعاطفة والاختلاف وكأننا بالرسامة تؤكد ان اختلاف عائشة عمن حولها واضحا، فقد كانت روحاً حرة لم تلتزم بالقيود المفروضة على النساء في وقتها ومن تمردها زينت الزياني لوحاتها بالوان متمردة وافكار تنتصر فقط للأمل ولسيرة وطن.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115