وتفر خارج الإطار في سفر الحلم والخيال. لا يرسم الفنان الطيب زيود بالفرشاة بل يحاور الفسيفساء باعتبارها مادة وهوية، تاريخا وأسطورة...
أضاءت لوحات معرض «عصي على المحو» جدران دار الجمعيات السليمانية في إثارة للعيون والشجون حتى تقترب من عوالم الفنان الصاخبة بالهواجس والقضايا العصية على التجاوز والنسيان، العصية بدورها على المحو.
لوحات تراوح بين الرمزية والشاعرية
حتى لا تضيع الأمنيات، وحتى لا تتبدد الأحلام، اختار الفنان الطيب زيود أن يسم معرضه الجديد بعنوان»عصي على المحو». ولا شك أنّ الرسم بالحجارة أبقى أثرا وأنّ لوحات الفسيفساء هي الأكثر خلودا على مر الأزمنة والعصور. وإلى اليوم لا يزال علماء الآثار ينقبون عن أرضيات الفسيفساء في مشارق الأرض ومغاربها، وإلى الآن يشتهر متحف باردو على مستوى عالمي بثروته الثمينة من إبداعات فسيفساء الحضارات الغابرة.
إذا هو فن الرسم بالفسيفساء الذي رافق البشرية منذ عصورها الأولى وبقي شاهدا على ثقافاتها وتقاليدها وأنماط حياتها... وفي استعادة لأدوارها التاريخية وأبعادها الجمالية، اختار الطيب زيود أن تكون الفسيفساء ورشته ولغته ولوحته في الفن والحياة.
سواء رسم الطيب زيود «العاصفة» أو غازل «الواحة» أو رواغ «الأخطبوط « أو وقف على عتبة «عبور» أو بدا وكأنه «يقاوم الزمن» للخروج من « الوكر» وليخلصه» أورفيوس» من سجن «القصر المهجور» ليغتسل في النهاية بماء «نبتون»، فإنه من خلال هذه اللوحات التسع وأسمائها الموغلة في الرمزية والشاعرية نجح في شد انتباه زوار معرضه وتحريضهم على السؤال والإبحار في أعماق العتمة حينا ونور القمر أحيانا أخرى.
هواجس وقضايا... وأحلام
لقد بدت اللوحات وكأنها تلبس المفردات لتشي بالرسالة والحكاية من خلال الخطوط والأشكال وطاقة الألوان. في مراوحة بين استحضار أساطير الإغريق والرومان من خلال لوحتي «نبتون» و»أورفيوس» واستدعاء الأحداث الراهنة، يوثق الفنان الطيب زيود لذاكرة جماعية من الصعب محو تفاصيلها في معرضه «عصي على المحو».
في لوحته «عبور» صوّر الطيب زيود جزيرة الأحلام جربة وهي في حالة حصار وعزلة بسبب فيروس كورونا الذي شلّ حركة الخروج منها والدخول إليها. فبدت قاتمة وحزينة، وهي المدينة التي لم تغلق يوما أبوابها في وجه الأعراق والأديان.
وبالرغم من أنه ابن جربة الساحرة والملهمة، فإنه لم ينس جارته قابس وهي تستغيث بعد حريق شريانها النابض «سوق جارة» واشتغال واحاتها الغنّاء، فإذا بالفنان الطيب زيود يحمّل لوحته «الواحة» كل ما ذاقه من وجع وأسف ويرسل من خلالها دعوات صبر وأمل في أنّ «عاصمة الحنّاء» لا يمكن أبدا أن تهزمها النار وستتجمّل قريبا بالحسن والبهاء.
قريبا «مهرجان حرفي فنان»
تتعدد الرؤى والمواضيع في لوحات «عصي على المحو» لتلتقي عند بلاغة التعبير وبراعة التركيب. وعن سر هذا الافتنان بفن الفسيفساء دون سواها وعشق ترويض الحجر الصلب ليستحيل إلى فن ناطق، سبق وأن صرّح الفنان الطيب زيود لـ»المغرب» بالقول: « لقد وجدت في الحجارة وسيلة مثلى للتعبير عمّا بداخلي، كما رأيت فيها الألوان والمواد التي تجذبني أكثر من غيرها من المعادن الأخرى. ولهذا اخترت الفسيفساء باعتبارها فنا وحرفية وابتكارا وليست صنعة بسيطة مثلما يرى البعض.إنّ المصمم في فن الفسيفساء هو من يجمع بين ابتكار الحرفي وإبداع الفنان حتى تكون اللوحة على قدر من الإقناع والجمال...»
في مسقط رأسه بجربة، أسس الطيب زيود مهرجان «حرفي فنان» من أجل «النهوض بالملكات الإبداعية لدى الحرفيين وتجديد أساليب الابتكار في حرفهم عن طريق الاطلاع على تجارب الفنانين التشكيليين والتعامل المباشر معهم.» ويستعد الفنان الطيب زيود إلى تنظيم دورة جديدة من هذا المهرجان في صائفة هذا العام بعد التوقف الاضطراري بسبب جائحة كورونا.
ويحمل مهرجان «حرفي فنان» على عاتقه محاولة تطوير الذائقة الجمالية لدى الحرفيين حتى يلامس إنتاجهم سقفا عاليا من الفن والإبداع، وكذلك كسر المركزية الثقافية على مستوى تنظيم التظاهرات الكبرى وذات الخصوصية. كما يطمج مهرجان «حرفي فنان» إلى جعل جربة مركزا للاهتمام والأضواء سيما وهي تتطلع إلى التسجيل ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي.
روبورتاج: في معرض «عصي على المحو» للطيب زيود: لوحات من الفسيفساء تستنطق الحجر وتترك الأثر !
- بقلم ليلى بورقعة
- 12:08 02/06/2022
- 1446 عدد المشاهدات
أمام لوحاته يقف المتفرج مشدودا إلى قصص معلقة بين الحقيقة والمجاز، وينظر مدهوشا إلى كون من الأحاسيس والأفكار والألوان تبدو وكأنها تتمرد على المساحة