مرايا وشظايا: «المايسترو - حرقة - حرقة 2» ثلاثية من ذهب غيّرت وجه الدراما التونسية

كم من المسلسلات التي مرت على مر السنوات عبر شاشة التلفزة الأم وحتى القنوات الخاصة في الأعوام الأخيرة، ولكن أغلبها مرّ كالسراب ولم تبق في البال سوى بضع عناوين

ونزر قليل من أسماء أعمال ارتقت إلى سماء الإبداع. وذات موسم رمضاني والناس قد صامت عن متعة الدراما التونسية لمواسم ومواسم، طلع علينا الأسعد الوسلاتي والسيناريست عماد الدين الحكيم سنة 2019 بمسلسل «المايسترو» فكانت المفاجأة - المعجزة. إن هذا المسلسل الذي «ملأ الدنيا وشغل الناس» كان كالعصفور الذي انفلت من قفص الرداءة ليحلق عاليا فوق أسوار السطحية والتفاهة في «تصحيح للمسار» ومصالحة الجمهور مع دراما رمضان.
لم يكن «المايسترو» مجرد مسلسل كسر قضبان مراكز الإصلاح في تونس فاضحا ما ورائها من معاناة ومأساة طفولة جنت عليها الجريمة والمجتمع، بل جاء في شكل معزوفة ألحانها من وجع وشجن هزّت الناس ورجت السلطات حتى يتحمل الكل المسؤولية في حماية أجيال الغد من لعنة الانحراف واليأس والعدم ...
وبعد أن تحققت «النبوءة» ودخل»المايسترو» كل البيوت وأعاد إلى التلفزة الوطنية الريادة والهيبة ونسب المشاهدة المحترمة، كان الرهان مرة أخرى على الثنائي «الوسلاتي والحكيم» في تجربة جديدة ومغامرة تتلظى على نار لتصل إلى بر الأمان وإرضاء المشاهدين. فولد مسلسل «حرقة» سنة 2021 على فراش من لهب جعلنا نصطلي بجمر العذاب في قلوب أمهات أودعت فلذات أكبادها وأمنيات العمر الأخيرة في بطن قارب الوهم والوعد الكاذب... وقبل الوصول إلى الشاطئ، ابتلعت الأمواج الكثير من الأحلام والأرواح... أما الباقون على قيد الأمل والحياة فقد اقتفينا أثرهم في «حرقة 2 (الضفة الأخرى)» على شاشة رمضان 2022 لنصطدم بحواجز من الخوف والجوع والشتات...

لم يكن صنّاع «المايسترو» و»حرقة» من هواة الأجزاء في الدراما وتمطيط الأحداث والحكايات. فحسبهم أن يفتحوا الجرح ويرشوا عليه الملح ويمضوا إلى تطبيب جراح أخرى هناك وهناك.. إلاّ أنهم ركبوا موج الخطر من جديد ليكملوا رحلة البحر السرية ويدهم على قلوبهم خشية أن تحرق «حرقة 2» نجاح «حرقة». وفي النهاية، صافحنا الجزء الثاني من حرقة بكف من وجع وحنين وهو يثير عشرات القضايا والهموم، وأنزل من المقل دموع الصدق والتأثر وحولنا آلاف المعذبين في الأرض والأحياء الأموات !

لقد كتب عماد الدين الحكيم ثلاثية «المايسترو - حرقة - حرقة 2 « بحبر التزام وعمق المثقف الحامل للرسالة ووضع الأمانة بين يدي المخرج الأسعد الوسلاتي الذي غيّر من وجه الدراما التونسية وارتقى بها إلى العالمية وقد علمنا كيف أنّ «الإبداع يطرح الأسئلة على الواقع». إنها الثلاثية – المعجزة التي جمعت بين جمالية الصورة والمونتاج وبراعة أداء الشخصيات والأبطال وشاعرية الموسيقى والخلفيات... فسافرت بنا خارج حدود الزمان والمكان وألقت بنا من علوها الشاهق في مدارات الرحيل الدائم نحو الإنسان فينا مهما صفعتنا الأحزان و الأقدار.
لاشك أن هذه الثلاثية المخضبة بحناء الألم والأمل قد نجحت ولو إلى حد في رج المجتمع التونسي ودفعه بمفعول الصدمة إلى مراجعة سلوكياته وأفكاره وقناعاته حتى يغير من نفسه والآخر.. وهذا هو الدور الحقيقي للدراما في التغيير والتنوير والارتقاء بالإنسان والمجتمعات... وتبقى ثورة العقول هي الثروة الحقيقية التي لا تنضب والقوة الناعمة  لسيادة العالم!

في المشهد الأخير من «حرقة 2» ألقى إلينا المخرج الأسعد الوسلاتي بتحية حب وسلام وهو يجلس إلى جانب أبطال

مسلسله في المطار في انتظار توقيت رحلة العودة إلى تونس، فبدا وكأنه يقول لنا بأنه «جزء من القضية»، وكأنه يودعنا بعد أن كان اللقاء معه في منتهى الروعة والمتعة من خلال ثلاثية درامية سيذكرها التاريخ. ولكن حتى وإن اختار هذا المخرج الاستثنائي بدوره الإبحار نحو ضفة أخرى للإبداع، في بلاد أخرى... فإنه سيعود يوما ما إلى هنا... إلى تونس !

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115