في افتتاح شهر التراث: موقع «أوذنة» يتمرد على عزلته ويستعيد إشعاعه

بعيدا عن الافتتاحات الخشبية وبروتوكولات التدشين الرسمية، خرج افتتاح شهر التراث في موقع أوذنة عن النمطية والرتابة بفضل طرافة

تصور فني بث الحياة في المكان وأعاد إلى مسرح «أوتينا» نبضه وصوته وصولاته... وبإمضاء المخرج المسرحي معز العاشوري جاء حدث تدشين فضاء الاستقبال الجديد والعصري بالموقع الأثري بأوذنة مفعما بالشاعرية وموغلا في الدلالة والرمزية كما يليق بتاريخ هذه المدينة المدهشة في الآثار والمعالم والباذخة في الجمال والحلم...
في صوت شجي لفنانة الأوبرا غنوة بن طارة وهي تؤدي النشيد الوطني على طريقتها المميزة، تم رفع العلم على مشارف موقع أوذنة الأثري إيذانا بانطلاق احتفالات شهر التراث 2022 والتي تتواصل من 18 أفريل إلى غاية 18 ماي 2022 تحت شعار «اللباس التقليدي هوية وطنية وخصوصية جهوية».
تدشين فضاء استقبال عصري بالموقع الأثري
على مرمى حجر ونظر من العاصمة ينتصب الموقع الأثري بأوذنة شامخا في كبرياء وصامدا في بهاء ... وعلى بعد حوالي 30 كيلومترا من الضاحية الجنوبية الغربية لمدينة تونس، تغري «أوتينا» بزيارتها والتجول بين معالمها واكتشاف بعض من فسيفسائها  وأسرارها... إلا أنّ متعة الرحلة إليها كانت تصطدم في كل مرة بانعدام وجود مكان للاستراحة أو حتى مجرد مرافق صحية !
ومن أجل كسر عزلة الموقع الأثري في امتداده التاريخي والطبيعي، وجعله منطقة جذب للسياحة والتنمية الاقتصادية قامت وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية بتشييد فضاء استقبال فريد من نوعه بأوذنة حيث يعد أوّل مركز استقبال عصري مجهّز بأحدث الوسائل التكنولوجية. وتحت إشراف وزيرة الشؤون الثقافيّة حياة قطاط القرمازي وبحضور وزير السياحة محمد المعز بلحسين ووالي بن عروس وعدد من السفراء وممثلي البعثات الديبلوماسية ، تم تدشين فضاء الاستقبال الجديد الذي بلا شك سيغير من مستقبل الموقع الأثري بأوذنة ويعيد إليه شهرته وإشعاعه كما كان على مر تاريخه.
وفي استعراضه لمكونات فضاء الاستقبال بأوذنة ووظائفه، أفاد المهندس المعماري المشرف على المشروع محمد معز اللبان أنّه يمتد على مساحة 1200 م2 ويضمّ قاعة فسيحة يمكن تشكيلها حسب الطلب وتغيير طاقة استيعابها وذلك بتحريك الحوامل الحديدية المعتمدة لتقديم الموقع الأثري بأوذنة لتصبح قاعة مؤتمرات يمكن أن تحتضن ورشات ثقافية وندوات وملتقيات وطنيّة ودوليّة . إلى جانب مقر الإدارة ومطعم ووحدات صحية وفضاء تجاري لبيع الهدايا التذكارية والمنتوجات التراثية بما من شأنه أن يساهم في دعم مداخيل الموقع... كما أصبح النفاذ إلى الموقع الأثري بأوذنة أكثر سهولة وذلك بعد تركيز جسر معدني يبلغ طوله 87م لتسهيل الوصول مباشرة إلى المسرح المدرج مرورا بهياكل الاستقبال. وقد بلغت كلفة هذا المشروع 2814 ألف دينار.
وفي قاعة المحاضرات بالموقع الأثري بأوذنة، أعطت وزيرة الشؤون الثقافية إشارة انطلاق شهر التراث في دورته 31 . وقد أكدت في كلمتها «أنّ من أهم التوجهات الاستراتيجية لوزارتها هي تثمين التراث في عنصريه المادي وغير المادي والعمل على حسن توظيفه واستثماره وتسجيل أكثر من يمكن من عناصره ومهاراته ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي فضلا عن تطوير التشريعات لخلق آليات جديدة ومحفزة لإسناد المستثمرين في قطاع التراث والحرف والصناعات الثقافية باعتبار أن الاستثمار في الثقافة لخلق الثروة ودعم التنمية قد أصبح من أساسيات السياسات الاقتصادية في العالم».
وقد الباحثة سنية حمزاوي مداخلة علمية بعنوان : «اللباس التقليدي : هوية وطنية وخصوصية جهوية»، فيما قدّم السيد عبد المالك بن فرج، المشرف على المخازن الوطنية للتراث التقليدي بالقصر السعيد مداخلة علمية بعنوان : «الكنوز الخفية للمخازن الوطنية من القطع الاتنوغرافية : نماذج من اللباس التقليدي.» وفي تحية تقدير وعرفان، تم تكريم عدد من الباحثين والحرفيين في مجال اللباس التقليدي.
كما احتضن بهو فضاء الاستقبال عرض مهارات لحرفيات وحرفيين في صنع اللباس التقليدي ومعرضا للباس التقليدي ضمّ قطعا من المخازن الوطنية للتراث الاتنوغرافي بالقصر السعيد.
المخرج معز العاشوري يبعث الحياة في المكان
في شرفة فضاء الاستقبال بالموقع الأثري بأوذنة المطلّة على الآثار بالجوار، انتصب فستان عملاق اتسع لكثر من شكل ولون وخامة قماش... فبدا وكأنه تجسيد للأزياء النسائية التونسية من شمال تونس إلى جنوبها على تعددها واختلافها وخصوصية جهاتها. وقد أوحى هذا الفستان للمصممة آمال الصغير إلى المخرج المسرحي معز العاشوري بإنجاز تصور فني ينسجم مع شعار شهر التراث الذي يهتم باللباس التقليدي ويثمن أهمية الموقع الأثري بأوذنة في الآن ذاته.
وفي عرض جمع ما بين الموسيقى والغناء والرقص والمسرح، استمع الحضور والضيوف بقصة أوذنة عبر التاريخ على لسان المسرحي القدير كمال اليعلاوي الذي كان أشبه بحكواتي وقور يروي لنا في تشويق كبير حكاية مدينة يعبرها يوليوس قيصر عند الغروب ويولد فيها الفيلق الثالث عشر ويسكنها الأمل الحلم... وبمنتهى الرشاقة ينتقل بنا إلى سر الفستان العملاق الذي أهدته سيدة حكيمة إلى ملوك «أوتينا» ليكون أيقونة سلام وعلامة وحدة يتشابك نسيجها وتتداخل أزمنتها لسرد حكاية شعب نسج هويته هذا التنوع. وقد أجاد الفنان معز العاشوري كتابة هذا النص الشاهق في معانيه والعميق في رمزيته بمنتهى البراعة والبلاغة حيث جمع في نص واحد بين الأسطورة والتاريخ مبحرا في «إلياذة هوميروس» وممتطيا «حصان طروادة»... ليربط بين «أوتينا» الأمس وأوذنة اليوم بجسر من طين الحضارات وحجر الثقافات التي عمرّت المكان على مر الأزمنة.
وقد كان التجسيد المسرحي والحيّ لنص معز العاشوري من خلال جسد وصوت الممثل الكبير كمال اليعلاوي مرفوقا بوصلات أوبرا بصوت غنوة بن طارة العذب ولوحات راقصة بتوقيع الرشيقة شيماء العوني ومعزوفات موسيقية من إبداع أنامل تلاميذ معهد الموسيقى بحمام الأنف تحت إشراف الفنان أنور العرفاوي ومدير المعهد أشرف الطيبي واستعراض لأزياء اللباس التقليدي من كل الولايات... وكانت كل هذه الفسيفساء من الفنون والألوان كفيلة بأن تسافر بنا خارج مدارات الزمان لنشعر برهبة المكان ونتخيل وكأنّ الرومان يمشون بيننا وكأنّ الأسلاف عادوا إلينا ليستمعوا معنا إلى قصة أوذنة التي نجح المسرح في نفض الغبار عنها والتذكير بمكانة مسرحها المدرج وضرورة استعادة وظيفته في احتضان العروض الفنية والمهرجانات الكبرى في قادم الأيام.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115