وأطربته وأربكته... وفي «حرقة» رمى جمرات من دمع ونار في وجه الفقر والعدم والسمسرة بأرواح البشر، فتركنا معلقين بين يأس وأمل... وفي «حرقة (الضفة الأخرى) عاد إلينا ليأخذنا في رحلة بين الحقيقة والمجاز بين تونس وإيطاليا فأسقطنا بالضربة القاضية عراة أمام عنصريتنا وإفلاسنا وزيف شعاراتنا وأحلامنا...
• بعد بث حوالي نصف حلقات حرقة 2»، إلى أي مدى أنت راض عن المسلسل؟
إن الرضاء غاية لا تدرك ولكل عمل فني إذا ما تم نقصان مهما لامس سقف الاكتمال. لكن ما يمكنني قوله هو أن شعور الخوف الذي انتابني منذ بث الحلقة الأولى قد زال تدريجيا... وأنا الآن مرتاح الضمير لأني بذلت فوق طاقتي من أجل نجاح الوصول بمسلسل حرقة 2 إلى برّ الأمان.
• ما الذي دفعك إلى مغامرة إخراج جزء ثان من مسلسل «حرقة» رغم أنك لست من هواة «الأجزاء» في الأعمال الدرامية؟
بعد بث مسلسل «المايسترو» طلب مني إخراج جزء ثان للعمل ورفضت. لكن في حرقة ظل هاجس الضفة الأخرى يراودني وبقيت الأسئلة تحاصرني عن مصير أبطالي الذين وصلوا إلى هناك، إلى إيطاليا... فكان علي أن أرافقهم من جديد في رحلة جديدة على الأرض هذه المرة وليس البحر. وقد عملت جاهدا على أن يكون «حرقة 2» مختلفا ومتجددا بالمقارنة مع «حرقة 1» وطبعا لن يكون هناك «حرقة3 «.
ولا أذيع سرا إذا قلت بأنّ مسلسل حرقة «2» أو الضفة الأخرى هو تتويج لثلاثية درامية انطلقت مع «المايسترو» وتواصلت مع «حرقة» واكتملت في «حرقة (الضفة الأخرى). وفي هذه الثلاثية الدرامية كانت قضيتي الكبرى هي الانتماء والهوية.
• ماذا عن ظروف الإنتاج وعن ميزانية المسلسل، وهل كان من السهل التصوير في الضفة الأخرى (إيطاليا)؟
منذ الجزء الأول لمسلسل حرقة قال لي كثيرون إنه من الصعب تنفيذ المشروع بإمكانات تونسية. ولكنني آمنت بأنّ الموهبة البشرية هي أكبر من عائق المال. لقد تكلف الجزء أكثر من 3 مليارات وهنا أشكر التلفزة الوطنية على إنتاج هذا المسلسل. وفي إيطاليا كان التصوير في منتهى الصعوبة على كل المستويات، فلم يتعوّد الإيطاليون على تونسيين يصورون في بلادهم بل على العكس. لكننا نجحنا في تصحيح نظرة «الاستصغار» تجاهنا ودخلنا أماكن وعرة في إيطاليا ولقينا كثيرا من رسائل الإشادة والإعجاب من الإيطاليين أنفسهم.
• في «حرقة» دسامة طرح وكثافة قضايا وظواهر تنساب بسلاسة لتصيب مباشرة الهدف، فكيف تمكنت من قول أكثر من قصة في الآن ذاته بمنتهى الرشاقة؟
هي بكل بساطة ثمرة التناغم الفكري والإنساني بيني وبين السيناريست عماد الدين الحكيم على مستوى التقاط الزوايا وتصوير المواقف. ومن هنا لم نتحدث عن المصب أو «البرباشة» عشوائيا بل اقتحمنا هذا العالم من خلال شخصية «نعمة». كما دخلنا إلى «الفيرمة» لنكشف لاستغلال الاقتصادي للمهاجرين غير الشرعيين من خلال شخصية «أمينة»، وتسللنا إلى السجون الإيطالية لنفضح معاناة المساجين من خلال شخصية «الصاروخ» و»عياد»... وعرينا عنصرية الغرب تجاه العرب من خلال شخصية «فارس» وعنصرينا نحن التونسيين تجاه الأفارقة من خلال شخصية «كايلا»... وكلها شخصيات عرفناها سابقا في الجزء الأول. ويبقى العمود الفقري لكل هذه القضايا «الحرقة» التي كانت مرآة عاكسة لقبح السلطات والمجتمعات والأفراد ...
• كيف تمكنت من المراهنة على مواهب الشباب وإخراج الممثلين «الكبار» من جلباب الأدوار النمطية حتى تكونوا أعمدة نجاح «مايسترو» و»حرقة» في جزئيه؟
منذ مسلسل «مايسترو» كان رهاني اكتشاف مواهب مغمورة ووجوه جديدة. ومثلما صادفت في بداية مشواري أشخاصا آمنوا بقدراتي، فمن واجبي اليوم الأخذ بيد الشباب للظهور والصعود وعلى أسس محترفة ومتينة. أما بالنسبة للمثلين المحترفين فقد اشتغلت كثيرا على كسر النطمية في الأدوار السابقة وإخراجهم في صورة جديدة غير معهودة وعلى أساس هذه القاعدة اخترت أحمد الحفيان ومنى نور الدين ونادية بوستة... وكثيرا ما ألهمني هؤلاء المحترفون المبدعون مشاهد مؤثرة أبدا لم تكن موجودة في السيناريو. لأنهم ببساطة يعطون بسخاء ومن أعماق الإحساس والروح.
• هل يزعجك أم يسعدك وصف مسلسلاتك بأنها خليط بين الروائي والوثائقي؟
يسعدني طبعا... لأنه يعيدني إلى البدايات في مشواري الفني حيث اشتغلت كثيرا على السينما الوثائقية. ولعل خصوصية هذه الرؤية الإخراجية تعود إلى تأثري بالسينما الواقعية الإيطالية سيما وقد عملت كمساعد مخرج مع مخرجين إيطاليين. ويظهر هذا التمشي في مسلسل حرقة على وجه الخصوص لأنّ الموضوع فرض نفسه. فحتى يقتنع بك المشاهد ويصدقك وتزعزع فيه أشياء وأشياء لابد أن تصوّر له واقعه كما هو بلا مساحيق تجميل أو قفازات أو أقنعة...
• في مصر نجح مسلسل «فاتن أمل حربي» في زعزعة الأزهر والبرلمان ، فإلى أي مدى نجح مسلسلا المايسترو والحرقة 1 و2 في التغيير ومراجعة القوانين؟
أعتقد أنّ «الدوام ينقب الرخام». وبعد بث مسلسل «المايسترو» تمت برمجة حفلة موسيقية جمعت الأطفال الجانحين مثلما حدث في المسلسل، كما تم صدور قرارات لبعث نواد ثقافية في مراكز الإصلاح. وبعد «حرقة « لا شك أن الدولة ستبادر بأخذ قرارات أو على الأقل القيام بمراجعات. لكن التغيير الجذري والحقيقي نطلبه من المجتمع. إنّ العنصرية والتحرش والفساد... هي سلوكيات تنبع من ثقافة المواطن ولا يمكن الانتصار عليها إلاّ بتغيير العقلية السائدة. يلومنا البعض بدعوى أن المسلسل بالغ في منسوب التراجيدية والسوداوية لكن هو ذلك واقعنا وتلك هي صورتنا... وباعتماد الصدمة أو الرجة من الممكن أن نزعزع المجتمع ونغيّره من الداخل وعلى مدى طويل. منذ سنوات وسنوات، يركب أولانا قوارب الموت ونعيش العنصرية ويعيش بيننا «البرباشة» لكن لم يسبق أن تمّ فتح نقاش حول هذه القضايا وغيرها مثلما هو الشأن اليوم... وأنا واثق بأنّ مسلسل «حرقة « سيغيّر الكثير في قادم الأيام. لا أبحث أن أكون الأفضل لكن أسعى إلى أن أكون مؤثرا !
• رغم نجاح مسلسلاتك جماهيريا وفوزها بجوائز أفضل عمل درامي متكامل إلا أنها لم تنجح في اكتساح التلفازات العربية... لماذا؟
هي مسألة تعود إلى مؤسسة التلفزة التونسية والدولة عموما. وهنا أدعوهما إلى العمل جديا على تسويق إنتاجنا الدرامي وتوزيعه عربيا لأنه سيكون بلا شك مصدر استثمار وعائدات مالية مهمة. اليوم يجب أن نفكر حاليا في عملية «دوبلاج» لمسلسل حرقة سيما في ظل وجود طلب أوروبي على المسلسل. وللأسف تمت دبجلة مسلسل «المايسترو» إلى اللهجة السورية وانتهى الأمر هناك ولا أعلم لماذا !؟
• كانت الدراسة والبداية في مشوارك أساسا الإخراج السينمائي، فهل أزاحت الدراما الفن السابع من حياتك؟
أعتقد أني أجيد الإخراج السينمائي وليس الدرامي. وأرى أن مسلسلاتي هي حلقات مسترسلة من السينما...لم تغب ولن تغيب السينما عن يومياتي وحياتي . وأسعى إلى أن أحقق حلمي في إخراج فيلم طويل سنة 2023 ولو بإمكانياتي الخاصة في تجربة جديدة مع كاتب السيناريو عماد الدين الحكيم.
• يعتب الروائيون على المخرجين بسبب تجاهلهم للرواية التونسية، فهل تفكر في الاقتباس من الرواية لتصوير فيلم أو مسلسل؟
في السنوات الأخيرة بلغت الرواية التونسية مكانة مرموقة وافتكت أكبر الجوائز والتتويجات الأدبية. وشخصيا اقتنيت سلسلة الروايات التاريخية للكاتب حسنين بن عمّو وشرعت في قراءتها على أمل تحويلها إلى مشروع درامي. كما أرشح للاقتباس رواية «الطلياني» لشكري المبخوت و»نازلة دار الأكابر» لأميرة غنيم ... ولكنها تبقى المسألة رهينة توفر الموارد المالية.
• ما مفاتيح الإخراج التي يتسلح بها الأسعد الوسلاتي حتى يعانق النجاح في كل مرة؟
أول مفتاح للنجاح هو أن نحب ما نفعله ونؤمن به. وأن يملك المخرج رؤية وبصمة خاصة به وحده. وأن يكون متجددا ومنفتحا على محيطه وقارئا جيدا لما حوله وصاحب مرجعية ثقافية وفكرية. إن المخرج الناجح في نظري يجب أن يكون نوعا ما أخصائيا نفسيا في التعامل مع فريقه من الممثلين انطلاقا من ثلاثة قواعد وهي الاحترام والثقة والصدق.
• بعد ثلاثية» المايسترو - حرقة 1- الضفة الأخرى» ... ما هو الحلم القادم في عيون المخرج الأسعد الوسلاتي؟
لن يكون القادم تونسيا. وأنا محظوظ لأني أخرجت ثلاثة مشاريع درامية متتالية لفائدة التلفزة الوطنية. واليوم سأترك المجال مفتوحا أمام مخرجين آخرين لأخوض تجربة جديدة على مستوى عالمي انطلاقا من مصر في عمل تاريخي وإنساني مع منصة مهمة وممثلين من جنسيات مختلفة عربية وآسيوية وأوروبية وإفريقية. وأتمنى أن تكون عودتي إلى تونس من خلال تنفيذ مشروع عمل تاريخي مع السيناريست عماد الدين الحكيم حول حقبة الأربعينيات في تونس لكن دائما بطرح إنساني وهو ما يهمني في نهاية المطاف.
المخرج الأسعد الوسلاتي لـ «المغرب»: لا أبحث عن أن أكون الأفضل لكنني أسعى إلى أن أكون مؤثرا !
- بقلم ليلى بورقعة
- 11:25 15/04/2022
- 1113 عدد المشاهدات
عزف المخرج الأسعد الوسلاتي على أوتار مراكز الإصلاح في تونس فكان «المايسترو» أيقونة درامية في شكل معزوفة فنية أدهشت جمهور التلفزة الوطنية