الدراما الرمضانية: «البرباشة» وجه تونس الآخر

موجعة الحياة حين نشاهدها على الدراما، هناك مشاهد يراها التونسي يوميا لكنها لا تشد انتباهه وبمجرد ان توضع في عمل فني في الشاشة

الصغيرة تتضح التفاصيل أكثر ويتشارك متابعو ذاك العمل في كمية الوجع والألم الموجودة في المشهد الذي يصبح محور النقاش وطرح الاسئلة، فالعمل الفني ليس مجرد صور او لقطات يتم تركيبها بل هو فعل انساني له هدف قد يكون نشر الوعي ولمَ لا الدعوة للتغير.
في مسلسل «حرقة2» منذ حلقتيه الاولى والثانية تداول المهتمون بالدراما صور من يعملون في مصبات الزبلة، وسط القمامة «زبلتهم» وضع كاتب السيناريو شخصياته، وجعلها تلتحم بالرائحة الكريهة وتستمد منها فعل المقاومة لمواصلة الحياة، تونسيون نراهم يوميا يجمعون البلاستيك، يبحثون وسط القمامة عن شيء يصلح للباس وربما الاكل، تلك المشاهد التي يحاول التونسي ان لا يركز معها في اليومي والواقع يشاهدها عنوة في الدراما ويتأثر لألم الشخصية وضعفها، في مصبات القمامة «حياة اخرى»، الم تونسيين اجبرهم التهميش وضعف ذات اليد على العيش وسط القمامة والبحث عن القليل من البلاستيك لسرقة لحظات من الفرحة وسط عتمة الحياة.
وضعهم لسعد الوسلاتي وسط القمامة «البرباشة» تونسيون حلموا بواقع أفضل حلموا بلقمة نظيفة وملابس «مافيهاش ريحة الزبلة» لكنّ ظروف الواقع القاسية وارتفاع نسب البطالة وارتفاع الاسعار دفعهم الى مصبات القمامة للبحث عن سبل الحياة، هم من يصنعون من القمامة حياتهم اليومية تراهم مرات كثيرة في الأسبوع ينبذهم الناس للرائحة الكريهة المنبعثة من ملابسهم، نساء يدفعن عربات ثقيلة بأجساد منهكة وظهور محنية ونظرة انكسار، تونسيون لم يجدوا الرحمة في الواقع لكنهم وجدوها في الدراما من خلال التعاليق المعبرة عن احترام لهؤلاء المقاومين لوجع الحياة والمعاندين لأجل المواصلة، فأيّ نفاق مجتمعي هذا الذي يحترم الشخصية الدرامية ويزدري الشخص الحقيقي؟.
في «المصب» وضع كاتب السيناريو شخصياته من مختلف الأعمار وضع الطفل التلميذ ووضع خريج الجامعة والامّ العاملة لقوت أبنائها، جميعهم تشاركوا الخوف من ظلمة الغد والجوع، دفعتهم الحاجة الى مصبات القمامة ليعيشوا، فأيّ معادلة مؤلمة هذه؟ ايّ وجع يشعر به من يضطر ليحيا من القمامة؟ تمرير الصور وتداولها كثيرا على وسائل التواصل الاجتماعي قد يكون بادرة لتتغير النظرة المجتمعية للبرباشة «ريحتنا خايبة يا نعمة.. خايبة.. تذكرهم بزبلتهم» قد تكون دعوة لاحترام انسانيتهم وعدم نعتهم بأبشع الاوصاف في حوادث كثيرة، تعاطف متابعو العمل مع هؤلاء «الخارقين» القادرين على تحويل القمامة الى فضاء مشترك للعيش والضحك والقوت ورسم الحلم (فضاء الجلوس الموجود أسمه : استراحة الحياة» هي رسالة فنية انسانية، دعوة لاحترام الانسان قبل البحث عن مهنته، محاولة لترسيخ صورة اخرى عن قيمة الفن وأهميته في التغيير والتأسيس.
مشاهد قليلة في فضاء تصعب الحياة فيه مصب القمامة ببرج شاكير، فضاء روائحه كريهة، الدخان ينبعث من كل شبر، تتكدس كل اشكال القمامة وعلى الانسان العمل بجدّ لجمع عدد اكبر من البلاستيك فكلما ارتفع العدد ثقل الميزان وارتفع المقابل، في العام 2022 تعمل النساء طيلة اليوم وسط القمامة بمقابل جد زهيد «اعطيها ثلاثة آلاف»،كيف يحمي ذلك عائلة من شبح الجوع والمرض؟.
من يجمعون القمامة «البرباشة» تونسيون، يعيشون بيننا، قد لا نرى تعبهم ولا تضحياتهم، ذاك التعب التقطته بذكاء لسعد الوسلاتي وحوله صحبة عماد الدين حكيم الى مشاهد درامية تثقل الروح اثناء الفرجة، مشاهد تسرق البسمة وتطفئ النور لشدة وجعها ووقعها على المتفرج، الى اولئك الذين يعيشون في القمامة ومنها، الى «البرباشة» ومعاندي الواقع وجّه لسعد الوسلاتي تكريمه في عمله الدرامي «الحرقة2» وسلّط الضوء على فئة مجتمعية غير معروفة، فئة تساهم بفرزها للبلاستيك عن بقية القمامة في الحفاظ على البيئة وحماية الارض من خطر سمّ البلاستيك، فئة لها احلامها الصغرى وآمالها البسيطة وتستحق احترام تضحياتها.
صورة الام تعانق ابنها وسط اكداس القمامة والأكياس المتطايرة «مشهد اتقنته جيدا الممثلة ، وسؤاله «نحب نمشي لبلاصة ريحتها» تداولها كثيرا المهتمون بالدراما التونسية، صورة اختزلت الكثير من الوجع بين الاجيال، مشهد من المسلسل ابكى متابعيه حسب تعاليقهم وجعل من الصورة عنوانا للكفاح والقوّة، فهذه الفئة «البرباشة» غير معروفة لدى الكثير من التونسيين، وإذا عرفها البعض فهم لا يعرفون كمية القسوة التي يواجهونها يوميا لجمع البلاستيك من وسط «المصبّ» فئة تحدثت عنها بعض الاعمال المسرحية (مسرحية برباشة لنصر الدين حجاج) ولكن للدراما تأثيرها الاكبر، فهل ستتغير نظرة التونسي للتونسي الاخر الذي يشاركه نفس الرقعة الجغرافية لكن تفرق بينهما هوّة اسمها غياب الانسانية؟.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115