كتاب الاحد: «دستوبيا13» لمحمد بوكوم الكتابة: عزف لتراتيل الحزن وصلاة في هيكل مقبرة الوطن

ان تكون كاتبا فذلك امر شاق جدا، لكن ان تكون صحفيا وكاتبا فذلك امر اشبه بالبؤس فالصحفي حين يتلبسه الواقع وتسكنه الاخبار وينطلق

في تحويلها الى كتابة يسكنه الوجع والضيم والالم، وجع بالاخرين وضيم من الواقع و السياسة والم يتماهى مع الام الحرق والغرق، فالصحفي حين يكتب يكتب بمداد القلب ودم الروح وحين يريد الهروب من واقعه الى عالم الكتابة يصحب الشخوص معه فيزداد ألمه ومخاضه، وأمام نص مسكون بالظلام والبؤس يحمل محمد بوكوم قراء «دستوبيا13» التي يقدمها بالقول «لا احد يجرؤ على اهداء احدهم كل هذا البؤس».
«دستوبيا13» رواية في 118صفحة صادرة عن «ابجديات للنشر»، كتاب ملغوم بالانين، كتابة تشبه زوايا الكاميرا وهي تلتقط الهوامش وتضعها في اطار كبير، هي صوت الحالمين والمنهكين، صورة عن واقع اسود يتماهى كع صورة الغلاف المسكونة بملامح مخفية وحده السواد البارز.

الكتاب الصفعة والكتابة دموع حارقة
الكتاب الصفعة، هكذا يمكن توصيف دستوبيا 13 فهو صرخة جماعية تنقل خيبة أمل شباب مابعد الثورة، صفعة توقظك من النقاشات العقيمة عن الوطن والحرية و الاسلام والشرعية و الانتخابات، شعارات رنانة وعبارات فضفاضة تسمعها في كل مكان بينما المواطن يموت جوعا وتهميشا ومعاناة.
«ديستوبيا 13» عنوان الرواية او تراتيل الحزن ووجع الهامش، «ديستوبيا» بما تعنيه لغويا ادب المدينة الفاسدة او الواقع المرير، ليلتزم بوكوم بالمعنى اللغوي للكلمة ويحمل قراءه الى حيّ منسي في تونس، ينطلق في حبكته السردية من «المقبرة» وبها يختم صلاته، في الحيّ المختار تتحول الكتابة الى كاميرا تقوم بعملية «زوم» على الشخصيات المختارة، حيّ تونسي يسكنه المتعلم والبطال، يقطنه بائع المخدرات و الدجال، تسكنه العاملة والحالمة بزوج، نماذج تونسية نعرفها جيدا لكننا نعجز عن سماع صوت انينها في وطنها، ليضيف الى كلمة «دستوبيا» الرقم «13» وهو من الارقام تنعت بالشؤم في اغلب الحضارات والمعتقدات، وفي تونس يشير الرقم 13الى تاريخ 13جانفي المرتبط باخر خطابات بن علي قبل هروبه الى السعودية، وحين ندمج الكلمتين «دستوبيا13» يطرح تلقائيا سؤال؟ هل تحققت مكاسب الثورة؟ هل تحقق شعار شغل وكرامة وطنية؟ هل خرج الفقراء من فقرهم؟ ام ازدادوا نزولا الى القاع؟ وفي روايته يتتبعهم بوكوم ويحول دموعهم الى كتابة موجعة تشبه الصفعة.

زمن الاحداث بعيد الثورة «كانت البلاد وقتها تعيش حالة من الفوضى والانفلات الامني بعد الثورة، أصبحت الماريوخانا بضاعة رائجة ومتوفرة، ازداد عدد مستهلكيها وباتت المدينة اشبه بمدينة مديلين الكولومبية، تمكن بعض الشباب من جمع ثروة من بيعها مثل تورو» الزمن الروائي لا يختلف كثيرا عن الزمن الواقعي فالكاتب تنطلق رصاصات قلمه من واقعه ليمعن في تقريب الصورة الزمنية «في ذاك الوقت ايضا راجت الافكار السلفية داخل المدينة واصبح لها مريدون كثر واتباع شكّلوا جماعة ونصّبوا امين، الشاب العشريني امير عليهم، كنيته ابو الدرداء»، الزمن واضح والمكان محدد ايضا اما الشخصيات فمختلفة من حيث الاسم وطريقة اللباس والتفكير لكنها جميعا تشترك في «الهامش».

يتقن عملية التوصيف، يغوص في اعماق شخصياته المختارة ينصت الى احاديثها ويحولها الى نص جميل منه ينطلق لنقد الواقع، في حيّ شعبي تدور احداث الرواية ، حي تتشابه يوميات سكانه، يختار بوكوم شخصيات شوّهها الواقع، اول الشخصيات شخصيته المحورية «وليد» خريج الجامعة، مثقف يعمل في وزارة الثقافة تحديدا هرب من حيه بحثا عن حياة افضل « كان يدرك ان بقاءه في الحي سينتهي بكارثة،قد يجد نفسه سجينا لجرم لم يرتكبه او شاهدا على جريمة ما، واسوأ ما يمكن ان يحدث ان تصيبه طعنة خاطئة فينتهي على يد بائس نهاية سريالية تدعو الى السخرية» ليجد نفسه في «وزارة الثقافة» وقسم يهتم باقتناءات الكتب لكنه وكر للخديعة وسرقة المال العام «وليد انت لازلت في تدرجك الوظيفي، الوضع تغير والحاكم تغير ايضا، هذه القائمة بالذات من طرفهم هم، لا تعتقد ان حصول ثورة سيغير الامور»، يرفض الامضاء على اقتناءات الكتب يتهم بالشيوعية ويطرد من عمله، نهاية سريالية للشخصية السوية التي اختارها في كتابه ليكون وليد هو عين القارئ ليعرف بقية شخصيات الحيّ.

الجميع متورطون بالصمت تجاه الام الوطن
يتقن الانتقال من حكاية الى اخرى بسلاسة، في 118صفحة استطاع محمد بوكوم ان ينقل الهامش واوجاع المهمشين، اقترب من حكاياتهم ووضعها في اطار كبير للقارئ ليعرف كمية البؤس المحيطة به، في روايته يسكب دموع الحالمين ويعيد صياغتها في جمل تخترق القلب، نراه ينصب لحلم «هالة» في لباس فستانها الاحمر الفاتن «لا يمكن لثوب جميل ان يقبر داخل خزانة الثياب، مكانه هذا الجسد الطري، هكذا حدثت نفسها وهي ترتدي الثوب وتنطلق عبر الشارع» ونتحسسه يصمت امام حزن حسناء المكتوم او هو صوت منجية المكلومة في ابنها «كانت الصدمة قوية على منجية، فاصابها شلل اخرس لسانها للابد» يحاول بوكوم تفكيك تركيبات شخصياته، يسمعها ويعيد كتابتها ليتماهى القارئ مع المها، تحليل نفسي لكل شخصية تبدو مشوّهة لكن بامعان العقل نجد ان المجتمع هو المشوه السلطة مشوّهة وشوهت العباد.
يتتبع قصص ابناء المدينة الفاسدة في علاقة بالسلطة ليكشف للقارئ ان السلطة هي المزود الاول للفساد، هي المجرم والجاني، هي القاتل والضحية، واستعمل شخصيات «ابو الدرداء» السلفي الذي يريد تكوين امارة تطبق شرع الله في دولة مدنية والسلطة صامتة»كان ابو الدرداء يفتخر بصحبته لضابط مهم في وزارة الداخلية يقدم له الحماية ويغطي افعاله، يقول انه ضابط هداه الله للايمان، تعرف عليه اثناء سجنه»، ثم شخصية «التورو» بائع المخدرات الذي تمنحه السلطة درجة من الرضا ومنحه رخصة (شفوية) لبيع السلاح «بعد احتراق ورقة السلفية، كان الهدف ان يقع اغراق البلاد بالسلاح لدفعها الى الفوضى،وبذلك يحصل تثبيت الحكومة، واسندت المهمة الى تورو» فالسلطة توزع المهام على هواها، وتبحث دوما عن شمّاعة لكل الجرائم.
السلطة تقتل وتغتصب باسم القانون، هي ايضا تساند الارهابيين والتجار غير القانونيين لمزيد فرض سطوتها، السلطة تغرس انيابها في احلام البسطاء وتزور الحقائق حفاظا على صورتها «كما اعلنت الصحف استشهاد الملازم احمد اثناء اداء واجبه» (الملازم احمد شخصية مركبة لضابط يهوى جمع المال باسم السلطة)

«ديستوبيا13» رواية ستشعرك بالفشل لانك لم تسعى الى التغيير او استسلمت للصمت، ستشعر انك غير فاعل في وطنك وانت راكن الى الهدوء تنظر الى تمزّقه بين السياسيين، وانت تقرئ ينتابك الشعور بالغثيان والاختناق ستتحسس قلبك الازال ينبض؟ ان كان ينبض فعلا فلم اصبح حال الوطن هكذا، وانت تقرأ دستوبيا ستنحاز الى من هم تحت ستجدك منهم وانت منهم فعلا، ستنصت الى آلامهم قبل ان تصدر صرخة وجع سكنتك منذ «المقبرة» اول كلمة في الرواية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115