القاصّ والروائيّ نبيل قديش لـ«المغرب»: على النخبة المثقفة أن تبدأ برسم ملامح ثقافة سلم وحداثة مع الدولة في مواجهة المدّ الظلامي الإرهابيّ ...

القاصّ والروائيّ نبيل قديش الذي تحصّل على جائزة الإكتشاف للكومار الذهبي لسنة 2015 عن روايته «عبّاد الشمس»، وتحصّل مؤخّرا على منحة دعم آفاق لكتابة الرواية، التي يمنحها الصندوق العربي للثقافة والفنون لأهمّ المشاريع الروائية الروائيين الشباّن من كامل المنطقة العربيّة

كما تحصّل عن مجموعته «العبث مع نيتشه»على الجائزة التقديرية في مسابقة «الكتام آر» للقصّة القصيرة، كما تحصلت روايته الأخيرة «شارلي» على المركز الثاني «المغرب» تحاوره عن مشاغل الكتاب والنخبة التونسية اليوم..
بوصفك روائيا، كيف ترى واقع النشر في تونس؟

 

النشر على عكس ما يعتقد البعض هي عمليّة معقّدة وعمل احترافيّ تتدخّل فيه أطراف عدّة، ابتداء من الكاتب، مرورا بالناشر والموزّع وصولا إلى القارئ. طبيعيّ إذن أن يتعطّل هذا «الميكانيزم» إذا تعطّل أحد مكوّناته أو كان لا يعمل جيّدا. في تونس اختلط الحابل بالنابل. يكفي أننا لا زلنا إلى حدّ هذه الساعة نعوّم القضيّة ونجترّ إلى حدّ كتابة هذه السطور مصطلح “ أزمة الكتاب” الفضفاض، حتّى أننا تلهينا عن النشر كموضوع أساسي ، وصرنا ننشر غسيل النشر المتعفّن.

يعيش الكتاب التونسيّ أزمة ما في ذلك اختلاف. تختلف بشأنها الآراء والتحاليل. يتهرّب كلّ طرف من مسؤوليته وتتراشق التهم. تتعاظم الأزمة، وتأخذ تفرّعات لا حصر لها. فهل هي أزمة إبداع وتأليف؟ أم أزمة نشر؟ أم أزمة توزيع؟ أم هي أزمة قارئ. تلاحظين هنا كيف أنّ تناول الموضوع على هذا المحو من تراشق التهم، وسعي كلّ طرف إلى التفصّي من مسؤوليته، وتحميلها للآخرين بغرض الظهور في صورة الضحيّة، إنّما تحرّكه الفئوية المهنية الضيّقة corporatisme.
أوّلا هناك نرجسيّة الكاتب، الذي يرى في نفسه الإله، الذي يكتب المقدّس غير القابل للنقد، ويرى نفسه دائما ضحيّة جشع الناشر، وهي الذريعة التي اتكأ عليها العديد منهم للنشر على حسابهم الخاصّ.

أمّا الناشر فيبرّر بارتفاع تكلفة الكتاب، وغياب دعم الدولة، وكساد السوق، اختياره نصوصا دون أخرى. في غالب الأحيان يراهن على الكتاب المحترفين، والنصوص التجاريّة، ويقفل بابه في وجه الكتاب المبتدئين وإن فعل فهو يطلب منهم مبالغ مشطّة لقاء نشر مؤلّفاتهم.

تتحدّث عن غياب الدولة، والدولة هنا تمثلها وزارة الثقافة؟

الدولة متمثّلة في وزارة الثقافة تدلي بدلوها أيضا في أزمة الكتاب التونسيّ، فهي تمارس سياسة عرجاء، تهدم بيد ما تبنيه باليد الأخرى، إذ تدعم الورق والنشر بمبالغ طائلة، لكنّها لا تحرّك ساكنا فيما يخصّ دعم الإبداع والتأليف، لا بجوائز تقديريّة مهمّة، ولا بمنح للكتّاب. ولا تبدي إنزعاجا إزاء أزمة التوزيع المستفحلة، خصوصا بعد حلّها للشركة التونسية للتوزيع.

وكيف ترى الشوشرة التي حصلت حول «جينيف»؟

بخصوص معرض «جينيف» وما حفّ به من تبرّم وتململ الموزّعين والكتّاب والمثقفين عموما، أعتقد أن هناك جانبا من المبالغة والصيد في الماء العكر في الموضوع. في العموم كان هناك تمثيل جيّد لتونس وللكتاب التونسي في معرض «جينيف». كانت هناك أسماء محترمة جدّا سافرت ومثلت تونس كأحسن ما يكون التمثيل، يبقى أنّ هناك دائما نظريّة الغنيمة في المشهد التونسيّ والتي تفكّر على النحو التالي :« لم أكن في جينيف، إذن جينيف سيّء للغاية». على الوزارة أن تقطع مع عقليّة « السياحة» في مثل هذه التظاهرات. من يمثّل تونس يذهب على نفقتها، من يريد السفر للتبضّع يقتطع تذكرة على حسابه الخاصّ. في التظاهرات القادمة نريد مبدعين أكثر من موظفي وزارة الثقافة.

صرنا نرى اليوم في تونس عشرات العشرات من الروايات التونسية، كيف تفسّر هذا الإسهال الروائي؟
الرواية هي ذلك الجنس الأدبي الذي يُشدّ إليه الترحال هذه الأيّام. إنّها مواسم الهجرة إلى الرواية، حتى للشعراء أنفسهم، على الرغم من أنّ الشعر هو أقدم عمليّة جمالية على الإطلاق. إذا أردنا الصراحة فإن الرواية شكل جماليّ طارئ على الحضارة العربيّة، ففي حين ظهرت في الغرب في شكلها الحداثيّ مع «دون كيخوته» لسرنفنتيس، منذ ما يزيد على أربعة قرون، كان علينا أن ننتظر منتصف القرن التاسع عشر لتظهر أولى الروايات العربيّة مثل « تلخيص الإبريز» لرفاعة الطهطاوي، وبعده فرح أنطون، والمويلحي، وحافظ إبراهيم ، وجرجي زيدان، ومحمود تيمور، وتوفيق الحكيم، ومحمد حسنين هيكل، والتونسيون أمثال البشير خريّف، والمسعدي.

« الرواية تمنحنا فرصة للهروب الخياليّ وتقتلعنا من حياة لم تكن تمنحنا أيّ إحساس بالرضا» هذا التعبير لميلان كونديرا، ربّما نفكّ من خلاله رموز وأسرار الطفرة الروائية التي شهدتها الساحة الثقافيّة التونسيّة بعد المدّ الثوري الهائل الذي غمر الجميع. قد تكون الرواية أكثر تحصينا من أيّ جنس إبداعيّ آخر، لكنّها تمنحنا فرص عيش حيوات أخرى، تلك التي كنا نرغب فيها، أو التي كان ينبغي أن نكونها ولم نكنها. إنّها تعبير عن رفضنا للواقع، ورغبتنا في تغييره، وتوقنا لعيش حيوات أخرى مثلما نريدها على قياس أحلامنا وتطلعاتنا.
هناك أيضا عوامل موضوعية أخرى تحفّ بصعود نجم الرواية. يُصار إلى الإحتفاء بها وتدليلها أكثر من الأجناس الأخرى، وخلق نجوم ومشاهير لها هذا صحيح. هناك عدد مهول من الجوائز التي تمنح للرواية عبر العالم، ودور نشر تتفرّغ لنشر الرواية، وسينما تعمل على اقتباس أفلام من روايات شهيرة. إنه عصر الرواية بلا منازع.

هل تعتقد أنّ «النخبة» التونسية تتراجع يوما عن يوم، عن الدفاع عن قيم الحداثة وقيم الحرية، في كل هجمة شرسة تشهدها هذه القيم؟
على العكس، تواصل النخبة التونسيّة خوض حربها الضروس للحفاظ على قيم الحداثة والحريّة والديمقراطيّة، والحقّ في الإبداع وحريّة الرأي. لكننا كثيرا ما نسفّه أحلامنا بأيدينا، ونتجنّى على هذه النخبة المتعبة والمنهكة أصلا، ونرمي دائما كلّ حمل البعير على كاهلها. لك أن تتصوّري كيف كانت ستؤول الأوضاع في تونس لولا تصدّي هذه النخبة المقصّرة في أعيننا دوما للفاشيّة الدينيّة، ومحاولات أفغنة المجتمع، وتغيير نمط العيش التونسيّ، والرجوع به إلى قرون الظلام والتخلّف والرجعية. تصوّري حال تونس لولا تلك الهبّة الشجاعة لكلّ نخب تونس ومثقفيها في اعتصام باردو، وفي كلّ التحرّكات في الشارع وفي وسائل الإعلام من صحافة وتلفزات ومنابر للتنديد بالإرهاب والأصولية الدينية.

هنالك من يرى أنّ تفشي الإرهاب دلالة على فشل نخبنا المثقفة؟
لماذا نشير دائما إلى النخبة بإصبع الإتهام حين نواجه فشلا من أيّ نوع كان؟ إننا كمن ينظر إلى شجرة ضربها الطاعون من فوق ويتهمّ ثمارها بأنها فاسدة ولا يهبط إلى الأرض ليرى ماذا يحصل للجذور في الأعماق. دائما وعبر الحقب التاريخيّة المتتالية، كانت النخب في المجتمع تباشر دورها في تطوير الحركة الإجتماعية وسدّ ثغرات مجتمعاتها، وبلورة آفاق مسيرتها وحركتها الجماعيّة عير صناعة المعرفة وصياغة وعي الأمّة باتجاه النهوض وتجاوز العقبات التي تحول دون التقدّم والتطوّر. وهذا لا يعني أنّ طريق نشاطها معبّد وميسور، وإنّما دائما مليء بالعقبات والعراقيل، مشحون بكلّ فنون العراك الإجتماعيّ والسياسيّ والإقتصادي. ومن هنا كانت النخب في مختلف الأحقاب التاريخية تقدّم التضحيات وتتحمّل الصعاب في سبيل الرقيّ والمصلحة العامّة.

حينما يعيش المجتمع في تنافر وتباعد مع نخبه، ولا يستفيد من وعيها ومعرفتها في إطار تصحيح أوضاعه وتقويم الإعوجاج الموجود فيه، يعدّ مجتمعا متخلّفا. هذا بالضبط ما حصل وما يحصل في مجتمعاتنا العربيّة. أُبعدت النخب عن حاضنتها الشعبيّة والمجتمعية فحصل ما حصل. تتأخر مجتماعاتنا وتواصل النخب في التطوّر، فتصبح الهوّة أكثر اتساعا. ما يحصل أنّ هناك قوى أخرى ترى في نفسها البديل لتملأ ذلك الفراغ، من بينها الفكر الأصوليّ. يجب أن نعترف قبل فشل النخبة في بقائها على الأرض والتحليق بعيدا عن مجتمعاتها، بفشل الفرد في حدّ ذاته، فشل الأسرة، فشل المجتمع وفشل الدولة. هذا عين الصواب إذا أردنا أن نحلّل المشهد بشكل موضوعيّ وبراقماتي، بعيدا عن العنتريّات والشوفينيات الجوفاء.

الإرهاب هو مرض مفاصل في مجتمع ابتعدت مفاصله بعضها عن بعض. هذا تحليل إكلينيكيّ للظاهرة الإرهابيّة. تخلّت النخب المثقفّة، أو أبعدت بالأحرى عن احتضان وتوجيه وتنوير مجتمعاتها، فتهافت الفكر الأصوليّ على أفراد وجماعات غير محصّنة وللعراء. هذا ما شاركت فيه بوعي أو بدون وعي الأنظمة الشمولية والدكتاتوريّة التي تعاقبت على حكم أوطاننا العربيّة. وعلى هذا الأساس يجب أن يتحرّك الكلّ لرأب الصدع. على النخبة المثقفة أن تبدأ بالفعل برسم ملامح ثقافة سلم وحداثة تساندها في ذلك الدولة في مواجهة المدّ الظلامي الإرهابيّ. طبعا النخبة هي رأس حربة وحصان طروادة الذي يُقتحم به القلاع.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115