القرمَادي نَيزَكُ سَاطع فِي سمَاء الثَّقافة التونسِيّة: لـمْ ينْطفِئ ضِياؤُه بغيَابِ جِسمِه

بقلم الأستاذ رضا الكشتبان
في إحياء ذكرى أفذاذ الأعلام والرجالات مناسبة لاستحضار مناقب واستلهام قيم للإفادة منها

والنّهل من معينها بمنأى عن الحنين إلَى مَا كان عَلَى مَا كَانَ وَعَنْ بكائيات حَسرات لا تُجدي ...
من الحَلْفاوين الى فرنسا مُرورا بالصادقيّة و كارنو , وَمن كتّاب الحيّ الى منَابر العالم محَاضرا بالجزائر و فرنسا و اليّابان , وَ من دُور الثّقافة الر رِحابِ الجامعَات , كَذَا هُو صالح القرمَادي في صيرورة دائبة و حَركة لاَ تَكلّ وَ لا تَملّ ... يَكتُبُ في مجلّة الفكر و التّجديد و الثّقافة وَ يتكلّمُ في الرّاديُو و التّلفاز .. مثقّف لاَ يَلينُ عُودُهُ ـ في زمن كانت تُونس بحَاجة الى رجالها و نسائها ـ جَمع الى الأصالة المُستبدّة الحدَاثة الغَاضبة , يؤَسّس وَ يُؤصّلُ الألسنيّة بالجامعة و السيراس , وَ يُرسّخُ التّرجمة مَادة للتّواصل مع الاخر بالكليّة , وَ كتَبَ الشّعر خَارج سنَنِهِ و تَقعيداتِهِ , القرمادي في النّهاية رفع لواء الثّقافة الجديدة في مجتمع تُونسيّ يعيش تحوّلات عميقة في بنيته و أفقِه الثّقافي .
هو الخُلاصة التي تفيض بها الأفكار والمواجد لوصلِ الحاضِر بالماضي وتَنقيح الراهنِ بالتّليدِ مَاضي الأمجَاد , أمجَاد الرجال وفذاذَة الرِّجالات فِي شتَّى المناحِي والاِختصاصَات ... رجَال رجَالات جادَت بِهم هَذه الأرْض المِخصَاب وذِي التُّربة الزكيّةِ نقاءً , رجَال تركُوا «الوسْمَة» والبصْمةَ والأثَـر مُدوّنا مَأثورا أو رمْزيّا تختزنُه الذّاكرَة الجماعيَّة وتستبطنُه المواجِد ويتوَارى عَن كلِّ باصِرة عَشوَاء ...
كذا كان «عم صالح» القرمادي فذّا طريفا له في مُدونة الأدبِ والمَعيش الثقافيّ وأرصدَة الجامِعات ومَراكز البَحث أثَـــر وأمَارات نابضَة بالحيَاة وقَـد وَسمَت الفقيدَ بالطّرافَة والإكْـثار فكَان العنْوان الأكبَر لسيرَة الرّجُل تعدُّدا فِي فَـرادة وتَفرُّد ... أو مُفردا بصيغَة الجمْع فمنْ أيِّ الأبوابِ والعتبَات قاربتَ سيرة القرمَادي ألفَيتَ التعدديّةَ والإكثَـار : تَعدّد المَواهب، والمَواقع والإختصَاصَات، تعَدّد أجْناس الكِتابات واللُّغات , تَعدّد المَصادر و المرجَعيّات. «عمّ صالح» مُثقَّـف جَامع بين سُلطة المَعرفَة وإنتاَج الأفكَار والإبداَع الأدَبي. هُـو الأستَاذ القَـدير مُلهم الأجيَال باحِث لسَانيّ رَائدا ومُؤسّسا ومُترجما ومُدرّسا.
هُو المناضل الوطني مذ كان يافعا في الوسط التلمذي بالصّادقيّة و في طور الشباب تحت يافطة الاتحاد العام لطلبة تونس بفرنسا أو مظلة طلبة شمال افريقيا إلى أن صار الأستاذ الذي تجاوز عن تبصّر حدود المهنة وحلقات البحث الأكاديمي و الدّرس إلى الخوض في مشاغل المجتمع وقضَايا العصر : القَضايا الوطنيَّة و القوميّة و السياسيّة والنَّقابية الإجتماعيّة.
«عم صالح» اللّسانِيّ والتُّرجمان ظلَّ منذ الصِّبى شغُوفا باللّغَات فَزَاوَلَ في الثانويّة تعلّم اللاّتينيّة واليونانيّة إلى جانب العربيّة و الفرنسيّة والإنكليزيّة .. وإذ بَرَّزَ في هذه اللّغات المتعدّدة فإنَّه ظلَّ فيها باحثا ولهَا مستعمِلا بكثير منَ التأنّق في غير حَذلقة وبشغَف في أجْلى البهجَات مع إضَافة نوعيَّة غَذّت المبَاحث وحفّزت البَاحثين في كليَّة الآداب أو السيراس وغيرها من المنابر.
«عَم صالح» الأديب شاعِرا، سَاردا قصَّاصا توسّل بمحامِل عدَّة هي القصَّة والمقالة والصحيفة والمجلّة والمحاضرة لتسجيل الرأي ونَشر الإبداع وكان تعدّد المرجعيّات واضِحا في ما يكتب مُبدعا انتَهك عرض الأجْناس ومقوّمَات الأنْواع الأدبيَّة كان يمتحُ من الثَّقافة العربيَّة الإسلاميّة والتقاليد الشَّعبية والثَّقافات الأخرى أصالة في حداثة ومُوَائمة بينَ الطّريفِ والتّليد ...
في القصّة تتعدّدُ الأبعاد في وَسْم مخصوص ينْأى عن نَمطيّة المضمُون والشَّكل ... يُطوّع المعيش اليوميَّ والمألوفَ الشعبيَّ للأدب فيأخذ من كل شيء الاجتماعي والذاتيّ والوجودي في مؤائَمة بين شواغل الحيّ وهواجِس الطفولَه وصَخب السّوق وتدَاعي الشهَوات والأذوَاق... فكان القصّ ترجمَان أشواق ونسخَة من الجوّ العامّ و»تصوير الحياة على علاّتها» على حدّ عبارة رفيق دربه الأستاذ بكّار.
وفي أساليب القصّ تَعدّد بليغ مِن تصريح وواقعيَّة، إيحاء ورَمزيّة جد وهزل، تلعّب لغويّ تَصويتا وتنْغيما وتشقيقا وتَصريفا أما اللّغة التونسيِّة مراوحَة بين الفصحى والعاميّة وتفصِيح الدّارجة واستيعاب الدَّخيل...
شعر عمّ صالح عصْريّ نَأى عن النمَطيّ غرضا وأسلُوبا فهو يُحدثِّك بالفصْحى كما بلغَة الحلفاوين قائما على مَلاحة مفرقة إذ «يَقرِن الجليلَ بالحَقير والرَّفيع بالوَضيع والجميلَ بالقبيحِ» فلا هو بالشَّاعر الاجتمَاعي ولاَ بالشَّاعر السياسيّ إنَّما هو كلُّ ذلك» عَلى حَدجّ تعبيرِ صديقه بكّار في مقدمة «اللحمة الحية».
والصُّورة اخترَاع عَلى غَير نمُوذج ومِثال استلهَاما مِن أحوالِ الجوِّ العامّ ورصِيد الحيَاة اليومِيّة ... وعن الإيقاَع لم يَستخْدم عمَّ صالِح تفعيلاَت الخليل فانعَدم الوزْن وقلّتِ القوافِي لأنَّها ليستْ إلا حِليَة وزينَة , والشعرُ جوهَر ورُوح ينْصتُ إلى إيقَاع الحيَاة «قعقعَه الدَّواليب وأزيزِ المُحرِّكات ... دويّ الطائرَات ... دقّة المهْراس ... أنّة الجائعين وتمرْطيق الطاعِمين» كَذَا عَبَّرَ عنْهُ بكّـــار.
شِعر القرمَادي له إيقاعُه الفرِيد كمَا المضمُون المُتفرّد الطرِيف في رؤيَة عمَادُها الأشْواق العارمَة إلى الأقاصِي حُلما بعَالم أرحَب وأجمَل يليق بإنسَان أفضَل ...
عَظيما كان عم صَالح عَزيزا يبقَى سخَاء فِكر وقريحَة , نَقَاء مهجَة وعذب موهبَة غزَارة إنتَاج وطرافَة تخريج وإبدَاع ...
وتبقى ترجمَاته المتعددة ونصوصُه المؤسّسة ومصطلحَاته الجَسورة مَنارات تَحديث عِلم ومنْهج ووهَج فكْر ووجْدان هي إبداعاته تؤصِّل الحديثَ و»تُحدّث» الأصَالة في عَزف منفرد يُغوي ويُحرّك السواكن أبدا.
شعرُ القرمادي في اللّحمة الحيّة كَأس من مَاءِ الحَياة اذَا شَربْتَهَا أَحدَثَ لَكَ فِي الفَمِ مَرارَة, وَفي الأحشَاءِ نَارا ,وَ فِي الرَّأسِ تَصوّرات وَأَفكَارا على حدّ تعبير توفيق بَكّار.
للقرمادي فضل كبير على الثّقافة و المعرفة التونسيّة و لكنّ موتهُ الغامض سنة 1982 , أدخلَهُ في طيّ النّسيان و لم تبقَ الاّ قاعة 9 أفريل حاملة لاسمه في مدخلها . أليس جَديرا بالجامعة التّونسية ردّ الاعتبار لرجل أعطَى للبلاد دونَ حساب ؟ أليس جديرا بالجامعة التّونسيّة أن تَفَعَ اسمه فوق أكبر المؤسسّات الانسانيّة بالبلاد ؟ أليس جديرا بوزارة الثّقافة أن تُعيدَ نَشرَ مؤلّفات العلميّة والابداعيّة تعميما للفائدة و تذكيرا بأولي الفضل ؟؟
نعم لقد كان للجمعيّة التّونسيّة للتّربية و الثّقافة أن تَعُود بالقرمَادي من بَعيد , و تُنير باسمِهِ دار الكتب الوطنيّة والمؤسسّات الاعلامية من راديوهات و شاشات و اعلام مكتُوب , لعلَّ الأيام تَبعثُ في مُؤلّفاتِهِ الحياةَ من جَديد ...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115