"وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ" القلم:4، وكان عفوه صلوات الله وسلامه عليه يشمل الكافر والعدو فضلاً عن المؤمن والصديق . وفي المرحلة المكية من السيرة النبوية أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالعفو فقال سبحانه: "فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الجَمِيلَ" الحجر:85، وقال: "فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ" الزُّخرف:89 . فكان صلى الله عليه وسلم يقابل أذى قريش بالصفح الجميل..
وكما أمره ربه سبحانه بالعفو في المرحلة المكية، أمره كذلك بالعفو ـ عن اليهود والمنافقين وغيرهم ـ في المرحلة المدنية، قال الله تعالى: "وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" المائدة: 13، قال السعدي: ""فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ" أي: لا تؤاخذهم بما يصدر منهم من الأذى، واصفح فإن ذلك من الإحسان".
فصبر صلى الله عليه وسلم على أذى اليهود والمنافقين، وعفا وصفح عنهم في مواقف كثيرة، ومن هذه المواقف ما رواه البخاري عن أسامة بن زيد رضي الله عنه: "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار على قطيفة فدكية (كساء غليظ منسوب إلى فَدَك)، وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود (يزور) سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج "منازل بني
الحارث وهم قوم سعد بن عبادة" قبل وقعة بدر، قال حتى مرّ بمجلس فيه عبد الله بن أُبَيّ بن سلول وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي، فإذا في المجلس أخلاط (أنواع وجماعات)، من المسلمين، والمشركين عبدة الأوثان، ، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة (غبار) الدابة خمَّر (غطى) عبد الله بن أبي أنفه بردائه ثم قال: لا تُغَبِّرُوا علينا (لا تثيروا الْغُبَار)، فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبي بن سلول: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقاً، فلا تؤذنا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله، فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك، فاستبَّ المسلمون والمشركون حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم (يسكتهم) حتى سكنوا، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا سعد، ألم تسمع ما قال أبو حباب كُنْية عبد الله بن أُبَيّ، قال: كذا وكذا؟، قال سعد بن عبادة: يا رسول الله اعف عنه واصفح عنه، فو الذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحقّ الذي أنزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البُحَيْرَة (المدينة المنورة) على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة (يجعلوه سيّدا عليهم)، فلما أبَىَ الله ذلك بالحقّ الذي أعطاك الله شَرِقَ (حقد) بذلك، فذلك فعل به ما رأيت (من فعله وقوله القبيح)، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم..
يتبع