الفن داخل السجن ... حياة موازية و إنعتاق

يُشكل الفعل الإبداعي، أيا كان، موضوع افتتان على الدوام حالما يتوقف المرء للحظة عند العملية شبه السحرية

التي تُغذيه كلما عرض نفسه. بيد انه يغدو معجزة غير قابلة للإنكار حينما يُنجز في ظروف يطبعها الحرمان من الحرية، و ما ينجم عنها من معاناة تضاعفها قساوة وعدوانية البيئة المحيطة.
وإيمانا منهم أن الفن قادر على تخطي محنة الحظ العاثر لنزلاء السجون باعتباره ركيزة أساسية لإعادة الإدماج، تسعى المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب للتعريف و الرفع من قيمة العمل الفني للسجين و تشجيعه على إطلاق العنان لحسه الإبداعي و الفكري رغما عن عدوانية المحيط و مرارة الظروف.
عندما يمنح الفن صوتا لمن لا صوت له
اختار بعض السجناء أن يقدموا على الفنون الجميلة. لقد تحدوا خوف العجز الإبداعي أو الجهل بالفن و عدوانية المحيط كما تحدوا الأذى من حولهم و نظرات الآخرين، لقد تجرؤوا، بحركة واثقة أحيانا و يقينية في بعض الحالات.
إنهم في معظم الأحيان، على حد قول جان ديبيفيه «أشخاص لم يسلموا من الثقافة الفنية» لديهم في ذلك حرية خام، عذراء، شبه متوحشة.
و لعل مهرجان مسرح الأمل و ما خلّفه من عروض اقل ما يقال عنها إبداعية راقية، هو أكبر إثبات أن الفن يُولد من رحم المعاناة. ثلاث جوائز من تقديم الهيئة العامة للسجون والإصلاح و المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، لثلاثة عروض استثنائية أخرجت مفهوم السجن من نطاقه الضيق بوصفه فضاء معزول مطلقا عن الخارج وجعلت منه يتلاشى أمام القدرة الجبّارة للفن من إعطاء السجين فرصة التعبير وممارسة الحرية و التفاعل مع المحيط الخارجي ولما لا وصولا إلى استعادة الذات.
«شراكة سلسة» كما وصفها أمان الله الأسود عضو المنظمة بين ما يسعون إليه من إضافة ثقافية و لمسة فنية في عالم ما وراء القضبان و بين المسار الذي سلكته الهيئة العامة للسجون و الإصلاح في فن السجون.
وفي تصريح لـ«المغرب» يقول امان الله «نسعى لاحداث نافذة نحو الحرية وهي «القافلة الثقافية و السينمائية» خلال شهري فيفري و مارس الماضيين تمثلت في التنقل بين سجون الجنوب و الوسط والشمال، تحديدا تلك التي لم تتمكن من المشاركة في مهرجان أيام قرطاج السينمائية».
تم عرض فيلم سينمائي داخل كل سجن مع توزيع الكتب لتدعيم المكتبات السجنية ،قافلة أبعدت المساجين و لو قليلا عن صرير الأبواب الحديدية و فسحت لهم مجالا للإبحار بخيالهم فمن خلال المسرح أو الفن يغوص السجين في تأمل عميق باحثا عمّن يكون، عن هويته إلى أن يؤدي به الطريق إلى استكشاف طويل لكيانه الذي سوف يكون بحثا أصيلا لا هوادة فيه، إنه يتجاوز مفهوم الخطيئة و مفهوم الذنب كسعي عظيم في البحث عن الذات.
حتى لا يوضع فن السجون في علبة
يبدو أن الفن بالنسبة لهؤلاء السجناء الفنانين أكثر من رفاهية ووسيلة للتعبير عن انفعالاتهم، بل هو وسيلة للاستشفاء من ندوب خلفتها تجربة السجن، وأسلوب خاص لطرد الوساوس والأفكار السلبية التي تقضم إرادتهم ورغبتهم في الحياة، ومع كل نشاط يجسدون آمالهم في اقتراب اليوم الذي ستفتح فيه الأبواب الحديدية وتهدم الجدران العالية ويعانقون الحياة التي تركوها خلفهم، متشبثين بفرصة ثانية للعيش داخل المجتمع.
«عالم آخر» هذا ما وصف به أمان الله الأسود الفن داخل السجون، من كتابة و تلحين أغاني و تصوير مباريات كرة قدم للمساجين تُبث على المباشر لأصدقائهم غير تامنخرطين ضمن فرق المباريات.
وبالفعل،هذا ما ترمي إليه المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب،إضفاء طابع إنساني على عالم السجون المعروف بـ»انغلاقه»، وخلق جسر للتواصل بين السجناء والعالم الخارجي، وتحرير أعمال فنية ولدت داخل أسوار السجن و لمَ لا نشرها و التعريف بها كحجة متينة يتغذى منها البُعد العلاجي للفن الإبداعي سواء أتم التسليم بهذه الوظيفة للفن أم لا.
لكنهم يؤمنون بقدرة الفن على التحويل والتسامي بالإحباط والحرمان و الشعور بالذنب والمعاناة إلى طاقة خلاقة،ترميمية وإيجابية وهو أمر مرغوب فيه بالوسط السجني.
ويبــدو أن الســجناء يقومـون بالاسـتغلال الأفضل لـه ليـرجعوا إلى العالم، مثـل قربـان للتسـامح مـع النفـس والتصالح معها من جديد.
الانفلات الجميل أو الزمن المُلغى
الزمن في السجن وحش مألوف و رهيب، حضوره خانق و يُطبق على الأنفاس. أثناء الاحتجاز يكابد المرء برعب تدفقه اللامتناهي. فهو «مُشغل العقوبة» كما وصفه ميشال فوكو. غير أن الفن يلحق بالزمن انتكاسة خطيرة و يُخلخل بكل براعة إيقاعه الذي لا يرحم و يخلق فيه بعدا جديدا.
هذا البعد مكون من عمق لحظة الإبداع، تلك اللحظة التي يفلت فيها الفنان من كل دناءة الواقع المادي. لذلك تحاول المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب أنسنة السجون و تأثيث المكتبات ، لإخراج السجين من سجن الذنب الذي بداخله ، والأسوار المادية التي تحيط به، إلى أفق أوسع وأرحب عن طريق المطالعة و ما تحمله الكتب من أبعاد توعوية وتثقيفية، ثم حضر الرسم أو الفن التشكيلي أيضا، الذي يغير من الشعور بثقل الأيام والساعات، حتى الثواني المتعاقبة التي يكاد السجين يسمع صوت خطوها على ساحة الوقت، فينتشله الفن أو الرسم من هذا الضجيج إلى حدّ أنهم ساهموا في تأطير أعوان المكتبات لتكون المكتبة في السجن أعظم وأكبر مرفق فيه، عالم مفتوح يطل على آفاق الحياة الأرحب، يعني أن تخلق من السجناء قراء... وبالتالي أن يرى السجين ماذا فعل الحلم بمانديلا، والطموح بستيف جوبز، وحب الحدود بنور الدين فارح، والإيمان بمحمد علي كلاي، والانحياز للحق بمالكوم إكس. ثم ينهل من معين الأدب، فيشاهد مقارعة من دون كيشوت لطواحين الهواء، وأليم سنوات ضاغجي، وماذا يفعل عمى ساراماغو بالناس، وصراع شيخ همنغواي مع سمكة الحياة، ومشاهدات أمل دنقل للطيور، أغاني نيرودا، رقص الفيلسوف زوربا.
إن الحديث عن الأثر البطيء للكتب طويل ، وما يؤثر في العملية أن القراءة هي اختيار، لكنه خيار قابل للتأثر بالمحفزات، عندما توضع محفزات للسجين كي يكون قارئاً فسوف يسعى لذلك.
هذا ما أمنت به المنظمة ،فالسجن تجربة أليمة، وفي الوقت ذاته تجربة ثرية وخصبة جداً، إذا حُسن استثمارها، وتم تهيئة المكان والظروف.

جيهان المكاحلي
(متربصة)

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115