بورتريه ... وصمتت صاحبة «صمت القصور» إلى الأبد: مفيدة التلالتلي... سيرة حلم وحـرية

في صمت يشبه «صمت القصور» رحلت دون إنذار أو وداع، و في هجرة أبدية لا يعود أصحابها أبدا على عكس «موسم الرجال» غادرت مفيدة التلاتلي إلى الأبد.

في سفر مفاجئ غابت فقيدة الشاشة السينمائية بعد أن أورثت أكثر من جيل روائع من الّأفلام وشرفات من الأحلام، وبعد أن نثرت في سماء سينما المرأة أكثر من طوق للنجاة والتحرر ...
اختطفت يد المنون يوم الأحد 7 فيفري 2021 السينمائية مفيدة التلاتلي لتفقد تونس برحيلها واحدة من أشهر رائدات الفن السابع وصانعات مجد السينما التونسية.

في مدينة سيدي بوسعيد الساحرة بألوانها والحالمة في شروقها وغروبها، ولدت مفيدة التلاتلي سنة 1947 ليكون السينما عشقها وقدرها... ومن أجل التمرس بأبجديات الفن السابع سافرت إلى باريس. وهناك التحقت بالتلفزيون الفرنسي سنة 1968 لتعمل محررة نصوص ومديرة إنتاج ومشرفة على المونتاج... فعادت إلى تونس سنة 1972 وقد تشبّعت بفنون الصورة وتمكنّت من حذق المهنة. وقد جاءت أفلام تونسية وعربية شهيرة بتوقيع مفيدة التلاتلي في المونتاج منها على سبيل الذكر لا الحصر: فلم «في بلاد الطررني» و«عصفور سطح» لفريد بوغدير و«سجنان» لعبد اللطيف بن عمار و«فاطمة 75» لسلمى بكار و«الهائمون» لناصر خمير و«ذاكرة خصبة» للفلسطيني ميشال خليفي و«عمر قتلتو الرّجلة» للجزائري مرزاق علواش.... والقائمة تطول.

وبفضل إجادتها لاختصاص المونتاج حصدت الراحلة شهرة واسعة ونجاحا كبيرا ليزداد اسمها ألقا وتوهجا عندما قررت اقتحام عالم الإخراج السينمائي. ولأنها برعت في اختيار المشاهد وترتيبها بصفتها «مونتيرة» قبل أن تكون مخرجة، فقد انسابت أفلامها في انسجام وتناغم دون حشو بالزوائد ودون ثرثرة الصور والخطاب. كانت مفيدة التلاتلي تخرج أفلامها كمن

يعزف سيمفونية متماسكة النوتات وعذبة الوقع والإيقاع

ثلاثة أفلام فقط أخرجتها فقيدة السينما التونسية والعربية، لكن هذه «الثلاثية» السينمائية كانت قوية المبنى والمعنى فعلقت بالذاكرة والوجدان وهزمت الشيخوخة والنسيان إلى الآن. فإلى اليوم لا يزال فلم «صمت القصور « (1994) يسيل الحبر ويثير الإعجاب وهو الذي حاز قرابة عشرين جائزة عربية وعالمية. وكما أهدتنا مفيدة التلاتلي في «صمت القصور» رائعة مدهشة من السينما فقد أهدت إلى السينما العربية النجمة التونسية هند صبري في أول اكتشاف لها. وهو ما جعل هند صبري تنعى الراحلة بتأثر وتصفها بأنها «المرأة التي غيّرت حياتها»...

في فلمها «موسم الرجال»(2000) والذي عرض في مهرجان «كان» السينمائي سارت مفيدة التلاتلي على خطى المخرجة المثقفة،الحاملة لموقف ورسالة كما كانت في باكورة أفلامها «صمت القصور». فإذا بها مدافعة شرسة عن قضايا المرأة ورواية عليمة بوجع بنات حواء ومعاناتهن ... لكنها في المقابل قاضية عادلة لا تلبث أن تحشر المرأة ذاتها في خانة الاتهام عندما تستسلم بدورها لضعفها واضطهادها، كما لا تتوانى عن تعرية عبودية الرجل نفسه وخضوعه لسلطة العادات والتقاليد والأعراف...

بعد آخر أفلامها «نادية وسارة» (2004)، أعلنت مفيدة التلاتلي انعزالها لتتفرّغ لرعاية عائلتها وأمها المريضة بالزهايمر.

في سنة2011، كانت مفيدة التلاتلي أول امرأة تجلس على كرسي وزارة الثقافة في حكومة محمد الغنوشي بعد الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي. إلا أن هذا التعيين لم يدم طويلا حيث لم تبق وزيرة سوى 10 أيام فقط وذلك من 17 جانفي إلى غاية 27 جانفي 2011.
من الصعب اختزال عمر من الإبداع والفن والجمال في سطور مقتضبة، لكن من الثابت أن مفيدة التلاتلي في مختلف أدوراها من مونتاج وإخراج وكتابة سيناريو كانت تبدع السينما بأصابع جريئة وعقل واع ونظرة ثاقبة تنفذ وراء الظاهر وتزيل الحجب لتفضح اهتزاز قيم المساواة واضطراب المجتمع التونسي بين الواقع المرير والأمنيات المجهضة... فليس من الغريب

أن تسارع السينما العربية إلى نعي الراحلة وأن يبادر مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة العربية بإهداء دورته الخامسة إلى روح مفيدة التلاتلي عرفانا وإجلالا لمسيرة امرأة استثنائية.
في رحيل صاحبة «صمت القصور» ستبقى كل المواسم سواء كانت «موسم الرجال» أو كل الفصول والألوان في استذكار دائم لمفيدة التلاتلي التي ستبقى بصمتها في ريادة السينما التونسية عصية عن النسيان وأكبر من الصمت !

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115