من البداية إلى النهاية، ليقف الجمهور منبهرا أمام هذه الموهبة السينمائية الاستثنائية. وفي فلمها الأخير «الرجل الذي باع ظهره» لامست كوثر بن هنية سقف العالمية، مما جعله يحصد جوائز عالمية وينافس على جوائز أوسكار 2021.
في أيام قرطاج السينمائية ، كان العرض الأول في تونس لفلم «الرجل الذي باع ظهره» سيناريو وإخراج كوثر بن هنية وبطولة الممثل السوري الكندي يحيى مهاينى والنجمة العالمية مونيكا بيلوتشى...
وشم «فيزا شنغن» على ظهر لاجئ سوري
في أول مصافحة مع مشاهد فلمها «الرجل الذي باع ظهره» لم تبخل علينا المخرجة بمشهد حب وغزل في القطار بين سام» وحبيبته «عبير» رغم الحرب التي تطحن رحاها سوريا ومواطنيها... هي الحرب التي حكمت على هذا الشاب بالدخول إلى السجن والملاحقة الأمنية مما جعله يفرّ من سوريا إلى لبنان طلبا للحرية والأمان.
في لبنان، عاني «سام» من مرارة العيش وشقاء الحياة سيما بعد زواج حبيبته وسفرها إلى بلجيكيا... فكان يرتاد المعارض الفنية الكبيرة ليقتات من ملذات موائدها مما جعله محلّ سخرية واستهزاء! هناك تعرّف على الفنان الأمريكي الشهير «جيفرى جودفرا» الذي عقد معه صفقة تتمثل في حصوله على «فيزا « حتى يستطيع السفر للقاء حبيبته في بلجيكا مقابل تسليمه ظهره ليرسم عليه عملا فنيا معاصرا !
لم يكن هذا الوشم سوى «فيزا شنغن» رسمها الفنان الأمريكي الكبير على ظهر لاجئ سوري فقير، فازداد الفنان شهرة وصيتا وامتلك اللاجئ كثيرا من المال لكنه فقد في المقابل الكرامة والحرية وأصبح «سلعة» قابلة للعرض والبيع والشراء في المزاد العلني ! تحوّل «سام» إلى عمل فنّي يعرض في أكبر معارض الفن المعاصر حيث يجلس لساعات دون حراك كالجماد، مديرا ظهره إلى الجمهور ليشاهد وشم تأشيرة شنغن المرسومة على جلد إنسان.
بين تنافس «سماسرة» سوق الفن من أجل الحصول على «سام» وظهره وتنديد الجمعيات المدافعة عن حقوق اللاجئين بهذه المعاملة المهينة للاجئ السوري، كان كل همّ «سام» استرجاع حبيبته وإعادة الحياة إلى قلبه الجريح. وحين تعود إليه معشوقته بعد طلاقها من زوجها، يترك البطل كل شيء وراء ظهره، بما في ذلك الرسم الذي غطى جلده... ويسارع في الرجوع إلى مدينته «الرقة» بسوريا عساه يعثر على حريته المسلوبة وجنته الموعودة.
في «الرقة» وقع «سام» في قبضة داعش وكان القتل بالرصاص مصيره، لكنه كعمل فني لم يمت حيث طالب الفنان الأمريكي بملكيته في الوشم المرسوم على ظهر القتيل. وبدوره تحوّل جلد «سام» الذي يحمل تأشيرة شنغن إلى لوحة فنية تجوب المعارض الكبرى بعد أن مات الإنسان وعاش على جلده الفن !
الفن المعاصر والمادة... والإنسان
في توليفة رائعة، وحبكة ذكية استطاعت المخرجة كوثر بن هنية أن تجمع بين قضيتين من عالمين مختلفين على شاشة واحدة وفي فلم واحد دون تناقض أو تنافر. لقد نجحت صاحبة «الرجل الذي باع ظهره» أن تقتحم كواليس سوق الفن العالمية من جهة، وأن تسلط الضوء على معاناة اللاجئين السوريين من جهة أخرى في ربط ذكي وطريف .
قد يبدو موضوع فلم «الرجل الذي باع ظهره» موغلا في الخيال وتطرف الإبداع لكن هذا الانطباع سرعان ما تبدد حين نعلم أن المخرجة كوثر بن هنية قد استوحت سيناريو فلمها من عمل فني حقيقي قام فيه الفنان البلجيكي المعاصر «ويم ديلفوي» برسم وشم على ظهر رجل وعرض العمل للبيع فعلا !
من وراء مشاهد فلم «الرجل الذي باع ظهره»، نفذت بصيرة المخرجة كوثر بن هنية إلى ماهية الفن المعاصر وعرّت مأزق سوق الفن في اللهث وراء شراء الأعمال المبتكرة والخارقة للعادة. عندما يحل الإنسان روحا وجسدا محلّ العمل الفني غير الحيّ، فلا شك أن قوانين سوق الفن ستهتز ارتباكا أمام «المادة» الجديدة المحكومة بجدلية الحياة والموت.
مونيكا بيلوتشي لأول مرة في فلم عربي
السيناريو الطريف والحبكة المتماسكة والتطور الدرامي المحكم... من سمات سينما كوثر بن هنية التي تشد جمهورها إلى شاشتها بكثير من التشويق والمتعة. في فلمها الأخير «الرجل الذي باع ظهره» كان طموح المخرجة كبيرا وهدفها بعيدا وهي تتطلّع إلى إخراج فلم بمقاييس عالمية.
لأول مرة تظهر النجمة العالمية «مونيكا بيلوتشي» في فلم تونسي وعربي، لتلعب دور المسؤولة عن تنظيم المعارض الفنية في فلم «الرجل الذي باع ظهره». وقد أضفى هذا الحضور للممثلة الجميلة في شخصية المرأة المادية والحازمة على الفلم أجواء من الغموض والإثارة.
في ثلاثة بلدان جالت كاميرا المخرجة كوثر بن هنية، ومن جنسيات مختلفة انتقت أبطالها وبأكثر من لغة كان الحوار في فلمها عابرا للحدود والقارات.
ولأن أعمال الفنان المعاصر «ويم ديلفوي» كانت النواة الأساسية لفكرة فلمها «الرجل الذي باع ظهره»، فقد تعمدت المخرجة كوثر بن هنية استدعاء هذا الفنان للظهور في مرور قصير عبر أداء دور الموظف بشركة التأمين الذي يقوم بتقييم ظهر اللاجئ السوري قصد تحديد سقف التأمين عليه، تماما مثل البضاعة !
على إيقاع موسيقى تصويرية عذبة من إبداع التونسي أمين بوحافة، وفي صور جميلة وغير رتيبة، انسابت مشاهد فلم «الرجل الذي باع ظهره» في رقة ورشاقة... فرغم بشاعة الحرب انتصر الحب في النهاية.