في السجن المدني بسليانة كان اللقاء بين المودعين والمخرج حمزة العوني مثيرا ومؤثرا بعد أن حرّك فيهم فلم «المدسطنسي» السواكن وحرّضهم على الانتفاضة في وجه الألم والمصالحة مع الأمل.
للسنة السادسة على التوالي، تكسر أيام قرطاج السينمائية عزلة السجون وتنفذ إلى ما وراء القضبان إيمانا بحق السجناء في الفن والحياة.
«المدسطنسي»... 13 سنة من التصوير والتعب
في أوّل مشاهد فلم «المدسطنسي»، يطالعنا البطل في رقصة بدت وكأنها صرخة جسد تجلّت في شكل دائرة تدور حول نفسها في فراغ وعبث .. في أول مصافحة معه، لا يخجل هذا البطل عن البصق في وجه الكاميرا، في وجوهنا، في وجه الحياة! إنّه «محرز طاهر» شخصية حقيقية اصطفاها المخرج حمزة العوني ليمنحها دور البطولة في فلمه الوثائقي الطويل «المدسطنسي».
سنوات طويلة من عمره وهبها المخرج لفلمه ، فعلى امتداد حوالي 13 سنة رافق بطله مقتفيا سيرة حياته وفصولها. من سنة 2005 إلى حدود سنة 2018، كان محرز طاهر تحت عيون المخرج حمزة العوني و»زووم» الكاميرا في سكناته وحركاته، أحلامه وهزائمه، ليله ونهارا... عند ضوء النهار، كان الشاب محرز طاهر يواجه الفراغ بالارتماء في حضن المسرح والاحتماء بدار الثقافة بالجهة، أما في الليل فكان ينزوي بعيدا في خلوة مع الأصدقاء من أجل تعاطي «الزطلة» أو احتساء الجعة...
وما بين الليل والنهار، انقسمت بدورها حياة محرز إلى نصفين ووجهين: فنان حر ومتفائل في الضوء، وثمل محتار وتائه في الليل. هذا التمزق الذي يعيشه البطل نقله تقنيا المخرج من خلال وضوح الصورة والألوان عندما يكون محرز يمارس الفن ويعترف بالحب لرفيقته... مقابل قتامة المشاهد في حلكة الليل التي تعكس قتامة الحياة والأفق المجهول كما يراهما بطل «المدسطنسي».
كان دخول «محرز طاهر» إلى السجن سنة 2009 بسبب استهلاكه للزطلة علامة فارقة في حياته، فلم يعد يحلم كما كان ولم يعد يرى في نفسه قدوة لشباب حيّه بعد أن لاحقه الوصم بأنه «خريج سجون» ... لكن الفن كان هو المهرب والمنقذ الذي ينتشل البطل في كل مرّة من إحساس الدمار والانهيار.
واقع شباب الأحياء الشعبية والارتطام بالقاع
انطلق تصوير فلم «المدسطنسي» قبل الثورة وانتهى بعدها، ولكن لاشيء تغيّر في حياة البطل، ولم تتبدل أوضاع الشباب التونسي، ولم يتحسن واقع الأحياء الشعبية... فصرّح شباب حي «المحمدية» أمام الكاميرا بأنهم يعزفون عن المشاركة في الانتخابات ولم يخجلوا من سب البلاد وقذف تونس بأبشع النعوت بسبب حالة اليأس والإحباط وقذارة القاع الذي يتخبّطون فيه.
من وراء مشاهد «المدسطنسي» تبدو علاقة المخرج ببطله وفلمه علاقة عضوية متينة لا تحكمها فقط قضية وكاميرا بل هي مرتبطة بحبل سري لا ينقطع طالما أن هذا المخرج هو ابن «المحمدية» التي يسكنها وتسكن فيه، وطالما أن «محرز» بطل الفلم ليس شخصية عابرة بل هو صديق المخرج في الحي والحياة.
في صراع، في صدام، في عناد... يدخل المخرج مع بطله في حوار مباشر نسمعه ونراه في فلم «المدسطنسي» نستشف من ورائه ملحمة «سيزيف» في مواجهة قدره وانفصام شخصية البطل بين الأمل واليأس.
بعد تعب وصبر وطول نفس من المخرج والبطل، وصل فلم «المدسطنسي» إلى عتبة النهاية بعد سفر «محرز طاهر» إلى فرنسا بفضل الفن للمشاركة في تربصات وأعمال مسرحية وكوريغرافية. على وقع أمطار غزيرة، انتهى الفلم والبطل يقف في منتصف الطريق محتارا بين خيارين: إمّا طريق تجارة المخدرات والثراء السريع وإمّا طريق الفن ورسم المستقبل خطوة بخطوة!؟
الفن تطهير في السجون... وفي الحياة
بخطى بطيئة كروتين حياتهم وراء القضبان وبعيون منكسرة كانكسار أشعة الشمس على جدران سجنهم المظلمة، دخل القاعة أكثر من عشرين مودعا بالسجن المدني بسليانة لمشاهدة فلم «المدسطنسي». ولكن حالهم ما لبث أن تغيّر بعد مشاهدة الفلم وكأن دماء الحياة قد دبت في أوصالهم من جديد وكأن الأمل عاد ليسكن نظراتهم وأحلامهم. في نقاش مباشر وحرّ مع مخرج الفلم حمزة العوني عبّر السجناء عن فرحتهم باكتشاف السينما وكثير منهم لم يدخل طيلة حياته قاعة عرض ولم يشاهد فلما... وتحدّث أغلبهم عن طاقة الأمل والتفاؤل بالمستقبل التي بثها فيهم الفلم وعن دور الفن والثقافة في تغيير الواقع والمصير. لأنّ الفن في السجون يستطيع إعادة بناء الإنسان، فقد صرّح بعض المودعين بسجن سليانة أن انخراطهم في نوادي المسرح بالسجون كان بمثابة التطهير الذي خلصهم من نزعات العنف والشر لتتحوّل إلى طاقات خلق وإبداع .
لم تعد الوحدات السجنية ومراكز الإصلاح بمعزل عن الحياة الثقافية والمهرجانات الفنية، حيث يتم الاستعداد إلى إنتاج أفلام بتوقيع المساجين بعد تجربة إخراج مسرحيات في السجون. وفي هذا السياق صرّح الناطق الرسمي باسم الإدارة العامة للسجون والإصلاح سفيان مزغيش بأنّ بعث ورشة التدريب على كتابة السيناريو في السجون هذه السنة كان الهدف منها إدماج المودعين في صناعة الفلم لا الاقتصار على مجرد الفرجة بعد تجارب ناجحة في إنتاجات مسرحية وموسيقية. وأضاف أن أيام قرطاج السينمائية 2020 في السجون ستسجل هذا العام رقما قياسيا بتسجيل مشاهدة 10 آلاف سجين من خلال العروض المباشرة وداخل الغرف في خمس وحدات سجنية باعتبار أن السجين هو في نهاية الأمر إنسان زلت به القدم لكن الفرصة أمامه لاستعادة المواطنة والحرية والحياة.