الأديبة بسمة الشوالي لـ «المغرب»: الكتابة هي فنّ إحلال السلام دون أيّ شكل من أشكال «التّصفية»

« بعد ثلاثة عقود من الارتداد المستمرّ نحو الدّاخل،كانت كتابة القصّة حدثا جميلا غير متوقّع، وخاصّة، جريئا.لم أكن قد قرأت حينها لبورخيس قوله «أعتبر نفسي قارئًا في الأساس،

وقد تجرّأت، كما تعرفون، على الكتابة»لكنّها كانت فعلا لحظة جرأة رفعتُ خلالها طابقا جديدا للسكن في العالم، فوق سطح منزل القراءة، هناك أقرب قليلا إلى السّماء، حيث تنفتح نوافذ غرفي المغلقة باتّجاه الشّمس،وأين « أبصرت قدّامي طريقا فمشيت» حتى هذه اللّحظة، مخلّفة أربع مجموعات قصصيّة ورواية وبضع نصوص متفرّقة.» هكذا تقدم الكاتبة والأديبة بسمة الشوالي مسيرتها وعلاقتها بالكتابة في حديثها إلى «المغرب»، وفي ما يلي بقية تفاصيل الحوار...

• من أين جئت إلى عالم الأدب؟
- «جئت لا أعلم من أين ولكنّي أتيت» ليس من رغبة تقف على «ناصية الحلم» فأقاتل لأجلها، أو من شعور مبكّر بـ «القدرة على استعمال الكلمات» يحكّ بطانة قدميّ لاتخاذ قرار الذهاب إلى عالم الكتابة. والقراءة بالنّسبة إلى امرأة «بيتوتيّة كصحن» مثلي، لم تكن سوى نوع من الإقامة الآمنة في الرّاهن زمنيّا ومكانيّا في مدينة داخليّة متحفّظة وضيّقة واقعا وأفقا.كان يمكن أن أكون تشكيليّة بناء على أنّي أمتلك الموهبة. أو موسيقيّة، حلمت بذلك فعلا لولا أنّ أبي حسم الأمر بطريقة شاعريّة.طلب منه اخّي الأكبر حينها أنّ يشتري له عودا. فأشار عليه: «اِذهب هناك واختر لك العود الذي تريد»، وحيث أشار، كانت كومة من أعواد الحطب. ذلك ردّ عامل يوميّ بالكاد يقدر على توفير مستلزمات الدّراسة لستة أطفال معا. أعواد الحطب تلك وإن لم يصلح كبيرها لصنع آلة وتريّة ما صغر منها كان يتحوّل إلى «هياكل عظميّة» لعرائس تشكّلها والدتي وتكسو أجسامها من بقايا صوف المصنع ومِزق الأقمشة، وتمنحها حياة بما كانت تريها لنا من حكايات وخرافات تتخلّلها جمل اعتراضيّة طويلة تنهض مقام القصص الواقعيّة الصّغرى المضمّنة في لعبة القصّ التي على شاكلة الدّمية ماتريوشكا. أمّي سيّدة الحكايات بامتياز. ومدينتي سيّدة الضّيق والضّجر بامتياز..

• أنت تكتبين القصّة والرّواية فما الأقرب منهما إليك؟
- القصّة والرواية تنحدران من شجرة نسب واحدة هي الشجرة العائليّة للسّرد، وكلتاهما «نشاط حدائقيّ» بعبارة فوكو، سوى أنّ لكلّ منهما «تقنيّات فلاحيّة» ومهارات اشتغال ومعارف خاصّة وملائمة للمجال الذي يشتغل فيه الكاتب. بالنسّبة إليّ لم أغادر فنّ القصّة تماما، كلّ ما في الأمر أنّي حاولت إخراج « الأزهار والنباتات» المزروعة في أصص داخل بيت القصّةحيث يكون «نموّها» محكوما بالوحدة وصرامة التّكثيف وضيق المساحة السردية نسبيّا، إلى حديقتها الخارجيّة أين الفضاء التعبيريّ للّعب الفنيّ أوسع، وحركة النموّ والتمدّد أكثر انطلاقا وأيسر، والتّعدّد متاح وبأريحيّة أكبر ممّا في القصة سواء على مستوى الثيمات أو الشخصيّات والأحداث أو الأنماط التعبيريّة التي يقع استدعاؤها في تشكيل الوحدات الهندسيّة الضرورية لبناء «مجتمع» الرواية على مساحة سرديّة وتخييليّة يمتلك الكاتب حريّة توسعتها بالقدر الذي يراه مناسبا وتجميلها بالورود التي يحبّ. غيرّ أنّي، وإلى اليوم، كلّما طرقت «أرضا» للقصّ عاودني الشّعور الأوّل بأنّ ثمن الجرأة الأولى على الكتابة لم يُسدّد بعد.

• فيما كتبته من نصوص ماهي القضايا التي تمّ التركيز عليها؟
- الكتابة هي،أوّلا، فنّ إحلال السّلام الدّاخليّ دون أيّ شكل من أشكال «التّصفية» القسريّة لأيّ فكرة أو شعور أو شخص يقيم فينا، وبقدر كبير من التفهّم والتّسامح وسعة الصّدر حتى ونحن نمارس «القتل» على طريقتنا الإبداعيّة أو نعيد فتح الجراح من جديد. وهي إلى ذلك فنّ مقاومة القتل والقتلة دون إراقة قطرة دم واحدة.. نحن شعوب تعاني من حروب داخليّة ضارية ومريعة حدّ الارتماء على صخرة اليأس، أو عرض البحر، أو التمنطق بحزام ناسف للحياة والأمل بما حوّل الموت في أوطاننا إلى « ظاهرة يوميّة عاديّة كأنّه لباس أو كأنّه طعام أو شراب أو كأنّه سكن أليف». إنّ القصّة لا تكون إلاّ متورّطة انفعاليّا وفكريّا ونفسيّا مع هذه الفئة من الشخصيّات المأزومة والثريّة في آن، تتوتّر بتوتّرهم وتهدأ بهدوئهم. تحمل قلقهم وانفعالاتهم وخيباتهم وانكساراتهم العاطفيّة والاجتماعيّة والميولات الانتحاريّة لبعضهم، مثلما تعكس أفراحهم ومسرّاتهم الصّغيرة، وخياناتهم الصّغرى والكبرى لأنفسهم وللآخرين،وتتقصّى قدر الإمكان عقدهم الخفيّة واختلالاتهم النّفسيّة وحتى الذّهنيّة في محاولة لرسم ذلك بحروف اللّغة ومائها وصخورها وفراشاتها الهشّة الملوّنة وهي تتحرّش باللّهب في شهوة الاحتراق.

• عديد المربّين اختاروا كتابة قصص الأطفال؟ فهل جرّبت ذلك؟ لماذا؟
- « المرء يقرأ ما يرغب فيه، إنّما لا يكتب ما يرغب فيه، بل ما يستطيعه»، قال بورخيس. أنا لا أستطيع حتى هذا الآن كتابة قصّة للأطفال.

• كيف تبدو لك الساحة الأدبيّة في تونس بعد الثورة؟
- من مكاني هذا الواقف على هامش المركزيّة الثقافيّة، بمنطقة داخليّة تصير أحيانا أبعد بكثير ممّا هي عليه في الواقع عن ذلك المركز/ العاصمة، أرى السّاحة الأدبيّة في بلادنا شاسعة، مفتوحة على مختلف التيّارات الأدبيّة والفكريّة والمدارس النقديّة، بها مقاعد كثيرة تسع الجميع ورفوف تكفي لكلّ الكتب التي تصدر، غير أنّ «أهل الكتاب» فيها يتفرّقون «شعوبا وقبائل» لا يتعارفون، غالبا، وقلّما يقرأ بعضهم لبعض.وعلى قدر ما تعدّدت الصالونات والنوادي والجمعيّات الثقافيّة والملتقيات الأدبيّة والندوات، تعمّقت أزمة القراءة أكثر وعمّ الكساد سوق الكتب. في جندوبة حيث وضع الكتاب على غاية من البؤس،تقرأ على مدخل الساحة الأدبيّة المثل القائل: «الكثرة وقلّة البركة».

• ما هو تقييمك ككاتبة للنقد الأدبيّ في بلادنا؟
- إنّ الأزمة الحادّة التي تمرّ بها القراءة وطنيّا وعربيّا هي ما ساهم في الكساد الكبير لسوق الكتاب قراءة ونقدا وتوزيعا وتبّضعا. وهذه الأزمة بدورها هي نتاج عدم وجود سياسة تربويّة وثقافيّة ثوريّتين تعمل كلتاهما معا وبالتوازي على إعادة المكانة المستحقّة للكاتب والكتاب في آن خارج الاعتبارات الجندريّة والسياسيّة والإيديولوجيّة، وعلى الدّفع باتجاه تنشيط حركة المطالعة في صفوف المتعلّمين، وعلى تحفيز الحركة النّقديّة واستثمار كلّ الطاقات البشريّة واللوجستيّة والفكريّة الممكنة لتفكيك أزمة القراءة وغربلة الكتب الصّادرة وتحسين جودة الحياة الثقافيّة، وتوسيع خارطة اشتغال النّقد قرائيّا وجغرافيّا بما يسمح له بمغادرة حالة الانكماش التي هو عليها، وكسر طوق الانغلاق على أسماء بعينها وكتب بعينها.
حاورها: الحبيب بن فضيلة

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115