ودوافع انتقام لدى أصحاب النفوس المريضة. في العصور القديمة والوسطى والحديثة، احترقت مكتبات كثيرة وذهبت نفائسها الثمينة رمادا منثورا بسبب فتيل نار المدمرين للفكر والمخربين للمعرفة. ولكن أن تتعرّض مكتبة المثقفة التونسية آمنة الرميلي إلى الحرق في القرن 21 فلا شك أنها الصدمة الكبرى التي تضع حرية التعبير في ميزان الاختبار من جديد، وهي الفضيحة المخزية التي تزلزل من حولنا كل قناعات التعدد والانفتاح والتسامح في بلادنا !
في الوقت الذي تزهو فيه الروائية آمنة الرميلي فرحا وطربا بالإيقاع الصاخب والأثر المدوي الذي تحدثه روايتها حديثة الصدور «شطّ الأرواح» في وجدان وعقول كل من يتصفّح ورقاتها ويتوه مع أحداثها... سرق منها اللصوص فجأة هذه الغبطة.
ثروة من الكتب والمخطوطات... التهمتها النيران
في سماء الرواية تحلق آمنة الرميلي بأجنحة من نور ونار، فلا تلبث أن ترسم شمسا وقمرا وأن تذيب الجليد في النفوس والقلوب... هي موهبة في الكتابة وحياكة ثوب الرواية أهدتها فوز روايتها «جمر وماء» بالكومار الذهبي سنة 2003 وحصد روايتها «الباقي» جائزة كومار سنة 2014 وتتويج روايتها «توجان» بالكومار الذهبي لسنة 2016...
منذ أيام قليلة، أطلّت المبدعة آمنة الرميلي على عشاق حرفها وسردها برواية جديدة صدرت عن دار محمد علي للنشر ووسمتها صاحبتها بـ«شطّ الأرواح». وقد فاجأت هذه الرواية قراءها بالتناقض العنيف بين ثنائياتها من الحيرة والقلق، الألم والأمل، الموت والحياة... وفي الوقت الذي كانت فيه آمنة الرميلي تستقبل مع كل قارئ جديد لروايتها باقة من ورود الإطراء والإعجاب.. تسلّل إلى منزلها مجرمون عاثوا فسادا في مكتبتها وأحرقوا كتبها!
في الليلة الفاصلة بين الأحد والاثنين 30 نوفمبر 2020، تمّ السطو على منزل الدكتورة آمنة الرميلي واستهداف مكتبتها بالحرق. لقد التهمت النيران كتبا ومخطوطات وبحوثا ومنشورات ومسودات أفكار ومشاريع روايات... قضت صاحبتها العمر في جمع عناوينها وتعمير رفوفها وأفنت الجهد والوقت في مراكمة ثروتها المعرفية وقيمتها المعرفية.
لم تكن حادثة سرقة عادية ولم يكن لصوصها عاديين، بل كانت جريمة خطيرة وأصحابها أكثر خطورة لأن هدفهم لم يكن اختلاس ما خفّ وزنه وغلا ثمنه فحسب بل يبدو أن مكتبة آمنة الرميلي المكتنزة بالكتب والفكر ونور العلم... قد استفزت جهلهم وربما عقيدتكم وربما حقدهم فأضرموا فيها النار !
هل هو تهديد لمواقف آمنة الرميلي وكتاباتها؟
إلى حد كتابة هذه الأسطر لازالت جريمة السطو على منزل آمنة الرميلي وسكانه نيام - بعد أن ظنّوا أنهم في أمان- مجهولة التفاصيل وقد اعتذرت صاحبة الشأن عن الكلام إلى حين تتخلص من الصدمة وتسترجع هدؤها بعد هول الحادثة.
عند تنزيل حادثة حرق مكتبة الكاتبة والباحثة آمنة الرميلي في السياق التاريخي والأبعاد الدلالية لظاهرة حرق الكتب والمكتبات عبر التاريخ، يفرض السؤال التالي نفسه بقوّة: «هل كانت هذه الفعلة الجبانة تهديدا صريحا لآمنة الرميلي بسبب كتاباتها ومواقفها المنتصرة للحرية والمدافعة عن حقوق المرأة ومدنية الدولة...؟
في انتظار تحرك السلطات المختصة وتنديد المجتمع المدني بهذا الاقتحام لمنزل الدكتورة آمنة الرميلي والاعتداء على مكتبتها بالحرق، طمأنت هذه المثقفة الحرّة والمرأة المبدعة أصدقاءها وقراءها وطلبتها بأنها بخير وأنها ستكتب كتبا أخرى ولن يتوّقف قلمها عن الكتابة طالما في قلبها نبض وفي عقلها فكر...
ولئن أحرق «خفافيش الظلام» تحت جنح الظلام مكتبة آمنة الرميلي، فإنهم لن يقدروا على حرق بنات أفكارها لأنها عصيّة على أعداء المعرفة ودعاة الانغلاق!