ومنها ترحل الى المانيا وإلى دول أخرى الرواية الرحلة تشبه السفرة في المكان والمكان، رواية بطعم الاكتشاف والتشوّق لزيارة المكان وتقفّي أثر الشخصيات التي يكون البحر محركها الاول في الحياة.
«عين الحمام» جاءت في 460صفحة و5ابواب وصمم غلافها الشاعر محمد النبهان وكانت صورة الغلاف لايوب القابسي وخطّ الغلاف لسمير قويعة، هي مزيج من الفنون والقصص نقلها ماهر عبد الرحمان بطريقة مشوقة وممتعة لنقل ونقد الهواجس السياسية والايديولوجية والفكرية والثقافية لشريحة من التونسيين.
البحر كتاب مفتوح فالنقرأ سطوره
الكتاب الرحلة، الرواية السفرة رواية تندرج في خانة ادب البحر (رواية تذكر قارئها بياطر حنا مينة)، رواية يحاول فيها ماهر عبد الرحمان الغوص في حكايات البحارة وتفاصيل البحر وقصصه، رحلة في المكان والزمان والشخصيات، من الحنين الى البحر تبدأ القصة واليه تعود.
البحر مورد الرزق « وإذ خرجا لاستطلاع الامر الفيا الحمريتي الصياد يصرخ في عون شاب: اوقفوا تلك الزوارق المطاطية وامنعوها من الصيد لقد اكلوا بها رزقنا، ولم يتركوا لنا شيئا في البحر» (صفحة 220)، البحر مطية وتحد لإثبات الذات والرجولة «ومن المعروف ان «قرط» انه يملك الرقم القياسي في حبس انفاسه تحت الماء والنزول عشرات الامتار في الاعماق...اعتقد ان قرط كان يحاول بلوغ اقصى ما يمكن من البطولة لتكذيب الاقاويل، كان يريد اثبات فحولته باستمرار وبكل الطرق» (صفحة 285 - 286).
البحر في الرواية متنفس العشاق «وقفت غوردن بجانب النافذة المطلة على البحر تتابع ابحار باخرة في الافق، وبين حين واخر تسترق النظر الى وجه خليفة، وقفت تنظر الى زرقة البحر ماخوذة بجمال الطبيعة» (صفحة 346)، كما أن البحر عنوان لوجع الالمان الفارين من الحرب هربا من الطائرات الامريكية « قال فيلهام شماتلوخ: كنا بصدد الانسحاب نحو البحر في عربات بانزر، فرحت اتسلى واسلي زملائي في المصفحة بعزف الكلارينات، كانت هناك طائرات امريكية تقصف رتل عربات البانزر التي تقلنا، واذا النيران تمسك بزتي من جانبها الايمن وتأكل وجهي» (صفحة59)، كما أكل اجساد المهاجرين غير الشرعيين (مت ايها البحر، مت جفف الله مياهك كل مياهك تصبح اكداس رمال تتلاعب بها الريح فلا يغرق في امواجك احد» (صفحة9.
البحر مصدر الربح والكسب والبحر طريق الحالمين بكسب افضل في ايطاليا «من المعروف عن شباب عين الحمام انهم لا يجتازون الحدود في اتجاه جزيرة بنتلاريا، بل يبحرون مباشرة الى صقلية التي يطلقون عليها اسم سيسيليا» (صفحة292) كل القصص المتناقضة والمتشابهة احيانا نقطة الجمع بينها «البحر» تحديدا بحر الهوارية او عين الحمام كما خطر لشيطان الكتابة ان يسميها.
البحر سيد المكان والاحداث ذلك الفضاء المائي الازرق الممتد منه استلهم الكاتب تفاصيل روايته، احداث الرواية تتناسق مع حركتي المد والجزر، الشخصيات تشبه البحر كثيرا في غموضه وعطائه ولينه وعجرفته احيانا، طريقة التفكير تتلاءم مع البحر الممتد، من البحر بدأت الرحلة التي ستحمل القراء ليكتشفوا «عين الحمام» و «الهوارية» و «كركوان» و»الحمامات» فقليبية، ويغوصوا في صفحات من تاريخ منسي للوطن والشخصيات.
في «عين الحمام» تختلف الشخصيات والأحداث، يقود ماهر عبد الرحمان قراءه ليتجولوا في ربوع قرية عين الحمام ويصاحبهم ليقتربوا من شخصياته ويتعرفوا على اوضاعهم الاجتماعية والثقافية، في الرواية يصنع سكان الهامش الأحداث اختار الكاتب ان يقترب من المهمشين لانهم صناع الحكاية، في الرواية يتعرف القراء على خليفة العائد من المانيا شخصية تعيش فصاما بين مايعايشه في المانيا من التزام بالقوانين والعمل والنظام بين الفوضى في مسقط راسه، وصديقه رابح والزومبا وعلي كابوشا والتوهامي وقرط ومليكة وزبيدة والحمريتي جميعهم جزء من الكل، جميعهم يصنع القصة بطريقة مختلفة ليكتمل نسيج الرواية.
الجنس اللعنة المرغوبة
«هوس الجنس يقتلنا بلا شفقة» (صفحة 444) جملة تقولها احدى الشخصيات آخر الرواية، جملة تدور في فلكها الكثير من الاحداث التي أدت الى موت شخصية او انتحار اخرى او جنون ثالثة، فالجنس جزء من الاحداث، الجنس في عين الحمام «متعة مرغوبة ولعنة مؤجلة الى حين»، فمليكة قتلها الجنس، مليكة المومس شخصية تحرك الاحداث وتساهم في تصعيدها، تلك «المومس» التي تعرف عليها رابح في العاصمة وكانت توفر للطلبة الجنس مقابل نصف الثمن «كان رابح الدخلاوي قد تعرف ايام الدراسة على مومس تدعى مليكة تبيع جسدها للطلبة بنصف الثمن الذي تاخذه من غيرهم» (صفحة109)، مليكة التي تعمل بائعة هوى بثمن بخس للطلبة «انها قبلت ان يكون حرفائها من الطلبة وباجرة زهيدة مساهمة منها في نضالهم الطلابي وتشجيعا لهم على الدراسة» (صفحة110).
وبتتبع اسباب اتباع «مليكة» كبائعة هوى يجد القارئ انها اكثر انسانية من الشخصيات السوية، مليكة او «نجاة الكدوي» ضحية زوجة عمّ لا ترحم، وعمّ طمع بأرزاق والدها فحرضه على قتل زوجته واتهمها بممارسة الجنس مع رجل غيره وتسمي الشخصية الحادثة بمأساة الثقب» احتاج الى طبيب جراح يخلصني من الثقب بين فخذيّ، يسده ثم يخيطه فلا ينفتح ابدا، بل ينفعني بشيء بل جلب لي المتاعب، حياتي كلها قامت على هذا الثقب، لم يهتم بي احد الا بسببه، ولم اكسب مليما واحدا الا من خلاله، اذا اراد احدهم مغازلتي وصفني بالثقب الجميل،...هل تدرك يا رابع معنى ان تبيع جسدك ببضعة دنانير فيجثم على صدرك الوسخ والحقير؟ وهل تعرف ما في تاجير جسدك من غبن» (صفحة 207 - 208.
في الرواية يكون الجنس سبب هلاك الشخصية لانها رفضت ان يركبها كابوسا فدعى الى تصفيتها واقامة الحد على مومس «لقد فتح الله لكما باب الجنة لتدخلاها، فاما ان يكتب لكما الله اجر عظيم باقامة الحد على مومس، واما ان تظلا عديمي الرجولة طوال حياتكما» (صفحة 452).
الجنس هو احد اسباب مغادرة خليفة لالمانيا ورغبته في العودة الى وطنه تونس وقريته عين الحمام فحديثه مع صديقيه الجزائري والمغربي ووصفها للسمن والعسل اغراه هو الاخر بفكرة العودة «السمن المتقاطر بين ارجل نسائنا هو الذي يجعل الواحد يغرف من الاناء غرفا ويساعده على خلفة البنين والبنات» (صفحة82) .
الجنس كان سبب هروب قرط من الدراسة بعد أن تحرّش به أستاذه «بريك المشاي»، وفي الرواية تجلد الضحية وسامح الجلاد فقط لان الاول فقير «درس قرط بضع سنوات في المدرسة الاساسية الوحيدة بعين الحمام، وكان «بريك المشاي» احد مدرسيه، ولقد تعود بريك ان يختار بعض تلاميذه، من الذكور ويأخذهم الى الجبل في غير أوقات الدراسة حتى يعلمهم «كينونة الحياة الطبيعية» ومن بينهم جميعا صار قرط البالغ من العمر انذاك اثنتي عشرة سنة فتاه المحبب، ومن أسباب ذلك ان الفتى لم يبد مقاومة كبيرة أثناء تلقيه دروس كينونة الحياة مقابل بعض الحلوى او المليمات القليلة»(226) وظلت صفات عدم الرجولة تتبع الطفل بسام وكبرت معه إلى حدّ انهم نسوا الجلاد وتذكروا فقط الضحية الذي هرب الى البحر والموت .
الجنس أيضا من التهم التي الصقت بزبيدة «هو مابون وأمه سحاقية» كما جاء على لسان احدى الشخصيات واتهمت زبيدة بممارسة السحاق فقط لأنها تأوي امراة مجهولة الهوية في بيتها وتعاملها برفق ولانّ المجتمع يفكر في «الجنس» ويراه محرك حياتهم اليومية اتهموا المراة بقتل زوجها لتخلو لها الحياة مع عشيقتها.
في «عين الحمام» يحاول الروائي نقل الكثير من التفاصيل لنقد المجتمع وطريقة تفكيره، فرغم تغير الزمن الروائي والزمن الواقعي لازال الجنس يجمع الناس ويفرقهم ايضا.
ولازال الوطن يقتل أبناءه
«عين الحمام» رواية تشبه المروحة الاسبانية، بديعة النقوش والرقوش والتصاوير هكذا وصفها شكري المبخوت في تقديمه لها، في الرواية يتتبع الكاتب بذكاء سيرة الشخصيات وتفاصيلهم، فيغوص بالقراء في الازمان المختلفة فهو الحاضر حينا بعد عودة «خليفة من المانيا» وهو الماضي البعيد احيا اي زمن الحرب العالمية الثانية فالماضي الاقرب تقريبا اخر السبعينات وكلما تصفحت الرواية كانت المراوحة بين الزمنين الروائي والواقعي، في «عين الحمام» شخصيات عديدة، لكل منها مساهمة في نسج الحكاية قصة المدينة وسكانها، ولعل من ابرز الشخصيات «طليبة براهم» شخصية تكلمت لمرة وحيدة لكنها صنعت الاحداث بطريقة غير مباشرة، طليبة في الرواية هناك مئات منه في الواقع.
فهو شاب تونسي هاجر لالمانيا وتحصل على الدكتوراه في الكيمياء وعوض ان تفتح له بلاده ابواب العمل والنجاح فتحت له ابواب الزنزانة والجنون فقط لأنه يختلف فكريا مع النظام»طليبة براهم عاد بداية سنة سبع وسبعين وتسعمائة والف حاملا شهادة الدكتوراه من المانيا وكله امل في تعيينه للتدريس بالجامعة، لكنّه ظلّ منذ رجوعه محل متابعة الاجهزة الامنية بسبب ارتباطات مع زملاء له سابقين من اليساريين وسجنوا بداية السبعينات» (صفحة332) وتواصل الشخصية التنويه ببقرية طليبة « اعتقد اننا خسرنا عالما كبيرا نحتاج اليه بشدة لطن قضينا عليه بانفسنا بسبب الفساد السياسي» (صفحة339)، فالسياسة وانتماء طليبة لليسار جعله عرضة للسجن والتعذيب ثم الجنون « آه، قتلوني، قتلوا احلامي» وهي الجملة الوحيدة التي نطقت بها شخصية طليبة.
تتبع الكاتب لطليبة ليس لمجرد السرد بل هو نقد للمشهد السياسي التونسي من زمن بورقيبة الى بن علي فما بعد الثورة لازال الوطن يأكل ابناءه ويقتل احلامهم ولازال التونسي «يختار لصوصا ليسرقوه» كما جاء في الرواية.
«عين الحمام» هي عين على حقائق مخفية من التاريخ التونسي محاولة للنبش في ذاكرة السياسيين الذين كانوا «خونة الرفاق» امس ليصبحوا قادة اليوم، هي تتبع لسيرة بعض مدعي التدين والسلطة الدينية الذين كانوا سراق الامس واصبحوا شيوخ اليوم، في عين الحمام يحاول الكاتب تجميع كل التفاصيل التي تختزنها الذاكرة والقائها علانية في الافق الممتد تلك الحقائق المخيفة كموج عنيف هي لبنة من لبنات وطن ياكل احلام ابنائه ويسرق ضحكاتهم.
• من الرواية:
«نعم مثلكم انتم العاملين بالخارج، تاتون في عطلة، فتملؤون الطرقات بسياراتكم المستوردة وتفتعلون الخصومات، وتلهبون اسعار السمك واللحم للتظاهر بالغنى» صفحة 15.
«ماذا لو اسكتنا صوت المدافع، وتبارزنا بالعزف؟ بل ماذا لو اتينا بشتراوس وبيتهوفن وموزارت ووضعناهم مقابل ريمسكي كورساكوف وسترافينسكي والغار؟» صفحة54
«الدواميس في الجبل هي كهوف حفرها سكان من حضارات قديمة وجعلوها مدافن ولا يعرف احد تاريخها ومنذ اكتشافها من قبل بعض مرتادي الجبل، اصبحت قبلة للباحثين عن الكنوز، فعبثوا بمحتوياتها وكسروا اكثر ما فيها من أواني كانت موجودة بجانب الهياكل العظمية» صفحة 162.
«لم يكن الشيخ احمد في السنوات الخوالي معروفا بورعه، بل بتنظيم رحلات الهجرة السرية الى اروبا عبر البحر، وقد عاش هو نفسه مدة في ايطاليا، وبمرور الوقت اصبح يعيش من بيع البخور والاعشاب الطبية وكتب الادعية،...ومن سمات الشيخ احمد انه لا يعين الوقت الا بمواعيد الصلاة، وكانه نسي ان هناك اربعا وعشرين ساعة في اليوم» صفحة 175.
«جاء فيما دونه طليبة انّ المياه المستعملة الصادرة من مصانع تحويل الخضر والفواكه ذات نسب حموضة عالية، وهو ما يجعلها خطرا على التربة والشواطئ، ولا يمكن لشركة تطهير المياه المستعملة معالجة نفايات المصانع لان الحموضة فيها تفتك بالبكتيريا المستخدمة في معالجة مياه البحر، ونتيجة لذلك لا من معالجة مياه المصانع في محطات خاصة» 354.