منبــــر: «افتح أبوابك الزرقاء» للشاعرة روعة قاسم انفتاح الشعر على ينابيع الذاكرة

بقلم: هيام الفرشيشي

«افتح أبوابك الزرقاء» هو عنوان ديوان الشاعرة اللبنانية المقيمة في تونس روعة قاسم، الصادر عن دار نقوش عربية. تحتل لوحة غلافه صورة باب عتيق أزرق تغطي

جانبا كبيرا منه نباتات متسلقة ترصعها زهور أرجوانية، وهو باب زاوية الولي الصوفي «سيدي بوسعيد الباجي» في تونس، الكائن في مدينة سيدي بوسعيد المتاخمة لقرطاج، المفتوحة على البحر بعمارتها العتيقة و ألوان أبوابها ونوافذها الزرقاء وجدرانها البيضاء تنفذ بزائرها لجمال الفن المتلبس بإشراقات الروح وزرقة الأفق، كما تنفذ بنا صورة غلاف هذا الديوان الشعري إلى حميمية وجمال المشهد المنفتح على عوالم الذاكرة و شاعرية المكان، ولمعاته الصوفية، خاصة وأن روعة قاسم الصحفية الشاعرة اللبنانية القادمة من ضفة فينيقيا تعيد بناء علاقتها مع المكان الجديد انطلاقا من أسطورة الماضي، فلئن كانت عليسة قد أسست قرطاج فإن علاقتها بالمكان علاقة شعرية التقت فيها أرواح الحكايات المنسية، وهي على غرار عليسة القادمة هروبا عن طريق البحر بحثا عن ملاذ في أرض جديدة، تجسد حلم الشاعرة مع أحد الأبواب الزرقاء وتحديدا مع أحد الرموز الصوفية للمدينة والذي خصّته بأكثر من قصيدة من بينها «افتح أبوابك الزرقاء» قائلة «افتح أبوابك لتلك الفينيقية الهائمة»، وقصيدة «طهرّني» التي افتتحتها بقولها «طهرّني / يا صاحب الطريقة/ فعباءتي ملطخةٌ بحزني».

فعنوان الكتاب عتبة أولى للعودة بنا إلى روح قديمة لزمن قديم زمن أساطير الماضي وزمن ذاكرة الشاعرة، لنقتفي آثار الصور الشعرية التي تسترجع تفاصيل الذاكرة المرئية وعلاقة المدركات البصرية بالحواس الأخرى، في رمزية واضحة للحنين، لتحملنا النصوص الشعرية إلى رموز لا تخفي شفراتها وننغمس بدورنا كقراء في عيش تجربة التخيل.
ففي قصيد «قهوة جدتي» تربط مشهد الشرفة بشعرية روح الجدة تضع كل حنوّها في قهوة الصباح، وفي شربها أمام النافذة لتشرق كشمس على العالم الخارجي، وهي ترتب شعرية الفضاء الذي تطل عليه على المشهد «الشرفة» لتصنع فرحها وسلامها الداخلي:

قالوا لها
ملأت شرفتك بالأزهار والياسمين والغاردينا
ولم يعد هناك متسع للمزيد ..!
فأجابتهم
ملأت شرفتي بالمشاهد
لأن الحياة
لمن يملك الشرفة...!

وتربط الشاعرة بين ظاهر الصور وعلاقتها بالكينونة، فهي شرفة مطلة على أعماق الذات. وتقبلها للحياة بحسّ جمالي تجعلها تنتقي الصور البصرية والشمية كمدركات حسية تجعل الحياة مجدية.

تنقل لنا الشاعرة صور الشرفة في بيت جدتها فتحولت إلى لوحة ترتبط بها الذات الشاعرة من زوايا قريبة تتضح فيها كل العناصر التي تملأ الفضاء وتصنيفها الأزهار والياسمين والغردينيا لتتضح ألوانها وأشكالها في مخيلة القارئ. ومن خلال مشهدية هذه الأشجار تنبعث الروائح الطيبة العطرة. فهي لا تنقل فقط الصور البصرية بل تحيي التجارب الشمّية كما الأمر بالنسبة للقهوة فهي لا تعنى فقط بعنايتها بحنية رهيفة بل تثير رائحتها المحببة المغرية..

و تتحول عناصر المشهد الذي تطغى عليه الحوارية إلى كنايات موجزة لمعان تتسم بجمالية المدركات وآثارها التي تجذب النفس لعوالم الصفاء لتجاوز التعامل العادي الآلي مع الحياة والتعبير عن عناصرها المبهجة. فالشاعرية ذوق وبهجة والتعبير عن الجمال الظاهري والباطني يلازم الإنسان في تفاصيل حياته.
وكما تسحب الشاعرة روعة قاسم القارئ إلى صور الذاكرة الشعرية، الصور التي يختزنها الذهن لأنها صور مؤثرة وعند استرجاعها لتصورها بشكل فني، تسحبه إلى ذاته، إلى مشاهد وحالات اختبرها. وتكون اللغة كمفردات اللوحة المصممة بألوانها وأشكالها تنفذ به من المرئي إلى اللامرئي:

هنا
عند هذه الضفة
أجلس القرفصاء
قرب شلال الموسيقى
أشتري قليلا من الهدوء لروحي

مع أن الفضاء محدد للشاعرة، غير محدد للقارئ لكنه بمثابة استرجاع مشهد عام لنا كقراء. قد نكون جلسنا قرب ضفة لنصغي لخرير المياه ونشعر بالهدوء. فنسترجع ونتخيل ما عشناه، ونندمج مع الشاعرة في حالة شعرية في مكان طبيعي تنبعث منه الموسيقى ويشعرنا بالصفاء الروحي. ويتنافذ المتخيل مع الحقيقي حين توقظ فينا الصورة اللغوية الحواس والإحساس والمعايشات السابقة وجمالية حركة الجسد في جلسة القرفصاء للتأمل والتخيل. فتتحول اللغة إلى مرآة لجسد القارئ وروحه. واستعمالها لمفردات: الضفة، شلال، موسيقى، للتدليل على الفيض الروحي المنغم، والمرور من الصورة البصرية إلى الصورة الصوتية. حين تعكس موسيقى الشلال خلجات النفس أو عمق الشخصية المستترة.

رطب هذا الشلال
غزير هو كعشق الصور
التي ألتقطّها
مع موسم الفراش
لحنٌ يأتي وآخرُ يعود

تأخذنا إلى الشاعرية اللطيفة للماء الهادر، اللمّاع فالفراش يهوى النور والألوان. فتنقل عشقها التقاط الصور والاحتفال بالنور مع الفراش. في فضاء تتنقل فيه من الرؤية البصرية المشرقة إلى حزم الضوء المبهجة تمنح طاقة الكون والحياة عبر إيقاع موسيقى متجانس مع الألوان المشرقة. ذلك أن للصور البصرية إيقاعات موسيقية. وانعكاس تمثيلات بصرية روحية وإن كان منبعها الطبيعة الملهمة أيضا بألوانها وأشكالها وإيحاءاتها وتلونها وتموجها وموسيقاها.

لن أترك هذه النافذة
لن ينهي أحد هذا المشهد
ولن ينكسر الزجاج
فهناك أحلامٌ مرسومة

المشهد الشعري يرسمه الحلم، تتمثله الذات كستار روحي شفاف تنفتح فيه العين الثالثة، لينجلي مشهد صاف لا ظل عاتم يحجبه. تنغمس في الحلم وتنأى عن الواقع.

وهي القائلة:
صورنا مرايا الذاكرة
أناشيد للقاء قادم

إن كانت الصور مرايا الذاكرة فلها جذور عميقة وايقاع روحي كالرنين المنبعث من زمن قديم في تطابق مع لغة مادية تستحضر تجارب الحواس من خلال الصور ولكنها تعزف تموجات الروح في بعث تلك الصور. فيقع استحضارها من خلال ايقاع ما يدل على الحالة والإحساس الذي بعثها. وهي الصور التي تسرد المعاني من خلال رنين الأشياء البعيدة ..
ديوان «افتح أبوابك الزرقاء» يبحر بنا لتخيل التجارب القديمة كعطر الأرض عند نزول المطر، الفراش الباحث عن السلام، المراسي الدافعة للاستقرار، الشرفات والنوافذ الزجاجية التي ترى العالم الخارجي في لحظات صفاء ، التوق لروح الساطير واللحظات المطلقة و النقاء الروحي بل تفتح أبوابنا جميعا نحو الأحاسيس المستترة والأحلام الدفينة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115