فريديريكو غارسيا ماركيز يبدأ عيسى المؤدب سرد قصة حبّ للحبيبة والوطن، قصة حب تتفرع الى قصص للجوسسة و النضال ومحاولة للنبش في الذاكرة الوطنية التونسية وتقاطعها مع الحركات الاستعمارية والحروب في العالم وبين سحر كارتاخينا الاسبانية وبهاء قليبية التونسية نبضت القلوب حبّا وتحركت الافكار دفاعا عن الارض وتمازجت قوى الحرية التي ولدت مع شخصية «مانويل قريقوري» فكانت «حذاء اسباني».
وجاءت الرواية وهي في 306 صفحة للروائي محمد عيسى المؤدب هي الرواية الثالثة في باب «المكان والاديان» طبعت عن «دار مسكلياني» ويحمل الغلاف صورة بالأبيض والأسود فيها العديد من الضباط الاسبان الجمهوريين الذين فروا من فرانكو الى تونس وقدمت الرواية الدكتورة فكتوريا فرنانديز دياز عن جامعة فالنسيا واعتبرتها «تجربة شبيهة بمعجزة، انتصرت للحب ولقيم الانسان الذي ينحني للاستبداد والكراهية، سعيدة باني عثرت في رواية حذاء اسباني على تجارب واصوات كتمت منذ زمن طويل لكنها ما زالت حيّة الى الان».
الرواية رحلة في خبايا التاريخ وأغوار المكان
الرواية الرحلة هكذا يمكن وصف «حذاء اسباني» رحلة جغرافية في ربوع تونس تنطلق من قليبية «باب البلد» و «البرط» وصولا الى فندق فلوريدا المطلّ على البحر والبرج الرابض منذ زمن يرحب بضيوف المكان، فسوق القرانة بتونس العاصمة ثمّ مدينة بنزرت ففالنسيا وكارتاخينا والقلعة وبرجي «ابولو» و «ابويلا» الاسبانين وجزيرة بانتالاريا الايطالية التي تبعد فقط 80كلم عن قليبية التونسية «مدينة قليبية مدينة بحرية شبيهة بالهلال المفتوح نحو الشرق، لا تبعد عن جزيرة بانتالاريا الايطالية اكثر من ثمانين كيلومترا،وهي من اقرب المدن التونسية الى اروبا» ، بين الهنا والهناك مد وجزر في الحكاية اتقن عيسى المؤدب صياغتها على لسان الاستاذ انور قاسم الذي يتولى مهمة قصّ الكثير من الاسرار المحيطة بشخص الضابط «مانويل قريقوري» احد الجمهوريين والذي هرب من «كارتاخينا» الى بنزرت فقليبية فأحب المدينة واستقر بها ودفن في مقبرة بورجل بمونبليزير.
الرواية رحلة في الزمن كذلك فالأحداث تبدأ من جانفي 2015 حين يستحضر انور قاسم ذكرى وفاة زوجته، ليعود الى جانفي 1984 تاريخ تعرّفه على السيد مانويل قريقوري ثمّ تاريخ 5مارس 1939 «صبيحة يوم 5مارس كان ميناء كارتاخينا في حالة استنفار، احتشد الالاف من البحارة والعسكريين والمدنيين، رأيت الوجوه مثل سنابل جافة سيحصدها منجل حادّ وكان فرانكو ذلك المنجل» و5مارس هو تاريخ مغادرة البارجة العسكرية الاسبانية الى ميناء بنزرت «ستتجه بارجتنا الى ميناء بنزرت في تونس مع بعض السفن والزوارق» .
فتاريخ 8ماي 1943 تاريخ احراق جزيرة «بانتالاريا» من قبل القوات الامريكية، فعودة الى تونس تحديدا ديسمبر 1947 تاريخ اول لقاء بين قريقوري والزعيم الحبيب بورقيبة «الزعيم رجل خطر، قصير القامة وذكيّ وسريع البديهة، لا يقف إلا وهو يرفع رأسه وصدره وكتفيه الى أعلى انه خطيب بارع» (صفحة 220) فتاريخ 10 اكتوبر 1976 المواقف لرجوع الضابط الى بلده مرة اخرى لتكريم الجمهوريين والمناضلين من طرف الملك، كل هذه التواريخ تشبه الرحلة وعمادها استحضار انور قاسم للكثير من الحكايات التي ترد على لسانه حينا وأحيانا على لسان الشخصيات الاخرى وبين الاسترجاع والحاضر يبحر القارئ ليكتشف بأسلوب سلسل وجميل براعة الروائي في صياغة الرحلات التاريخية والجغرافية.
حذاء الحب يغلب حذاء القسوة والظلم
«حذاء اسباني» هي الرواية الثالثة ضمن سلسلة «الاديان والمكان» وفي الرواية يسلط الضوء على اصحاب الديانة المسيحية من ايطاليين وأسبان وفرنسيين والذين سكنوا تونس وأصبحوا جزءا أساسيا فيها، في الرواية يتتبع الكاتب رحلة الذاكرة والتاريخ ويصاحب انور قاسم ويفتح دفتر الضابط مانويل قريقوري الضابط بالبحرية الاسبانية الذي فرّ مع الالاف عام 1939 الى ميناء بنزرت «كانت لحظات دامية ونحن نهرب من رصاص فرانكو ومن جحيمه، لم نكن جبناء بالتأكيد، لسنا جبناء فضّلنا الهروب على الخيانة والانغماس في النظام الفاشي، كان فرانكو يطاردنا ليسحقنا تماما، تلك الصورة خلدت لحظات الخلاص من فرانكو يوم 5مارس 1939 في ميناء كارتاخينا» (صفحة41).
وبعدها تمّ ترحيلهم « لم يفاجئني قرار ترحيلنا الى مناطق داخلية، لكنه كشف واقعنا المرّ، كنت على وشك الانهيار وأنا اتخيل السيناريو البائس، سنحشر في شاحنة مزدحمة، ثم تلفظ بنا الى الخلاء ونقضي بقية حياتنا عبيدا ونموت وننتن هناك كالجيف» لكنه استطاع الهروب من المحتشد الفرنسي مع البحار «زنينة» ليصل الى قليبية «هل بإمكانك ترحيلي الى قليبية؟، سأمنحك كل ما تطلب، لا اعتقد انّ العساكر سيلاحقوننا، انهم يرغبون في التخلص منا» (صفحة130) ويختارها وطنه الجديد.
اختيار العنوان لم يكن اعتباطا لانّ للحذاء رمزيته في التاريخ الاسباني وهو عنوان للتعذيب، حذاء من حديد مزوّد بحابسٍ أماميّ وحابس خلفيّ وفي داخله أسنان مدبّبة، ويشدّ هذا كلّه بقلاويظ محكمة وفي الرواية «الحذاء» يرمز الى العسكر وهو حذاء الضابط والحذاء ايضا رمز للطفولة فشقيق الضابط «سيباستيان» يمتهن صناعة الاحذية التي تعلمها مانويل صغيرا، ليكون الحذاء منقذ الضابط الهارب ووسيلته لكسب قوته حين استقر في قليبية « فكرت طويلا وانتبهت الى الحل الذي سينقذني من الجوع والذل، لن اغفر لنفسي ان فتحت كفّي لأحد، ما تعلمته من اخي سيباستيان سيكون الحل، وكان عليّ الانطلاق فشرعت في البحث عن طرق التزود بالجلد والقماش لأبدا شغلي في صنع الأحذية (160)، والحذاء الاسباني كان سببا لتعلق مانويل بقليبية وتحقيقه لذاته وتحويل الالام الى تجربة كفاح» حدّ ان كتبت الصحافة الاسبانية «مانويل قريقوري: الحذاء الاسباني الذي غلب هزم حذاء فرانكو» (274).
حذاء اسباني هي رحلة الضابط الاسباني وهي سيرة الالاف من الجمهوريين الذين هربوا من بطش فرانكو ونظامه، هي سيرة العديد من الاسبان الذين استقروا بتونس وأحبوها واختاروها وطنا ثانيا لهم، «حذاء اسباني» رواية سياسية مسكونة بالحبّ فالحب هو المحرك الاول للأحداث، من حبّ مانويل لفلوريدا ولد اجمل نزل بقليبية ومن حبّه لإيزابيلا تحدّى الخوف وصنع له مستقبلا مميزا، من حبّ انور لزوجته «مارسيلا» ولدت بعض احداث الرواية ومن حبّ فلوريدا لمانويل تميزت ودرست الطبّ و حبّ صوفيا لجدتها اختارت ان تظهر الى الحياة مذكرات مانويل قريقوري ومن وله زنينة باوستينا ولدت قصة ثصداقة بين البحار والضابط الهارب، فالاحداث يحركها الحبّ «لا اعتقد ان الانسان خلق لغير الحب، او لغير البحث عن حبيب مفقود» .48
حذاء اسباني الرواية السيرة، هي قصة العديد من الحالمين الذين طحنت احلامهم تحت وطاة التعذيب، هي قصة تونس البلد الذي يفتح ابوابه على كل الديانات والجنسيات، هي قصة حبّ فطري يسكن كل من يزور تونس وفي الوقت ذاته نقد للسلط الحالية التي ساهمت من خلال ارتجالها السياسي في تراجع صورة تونس عند الاخر والرواية دعوة للحب فالحب سلاح الصادقين.
تقديم رواية «حذاء اسباني» لمحمد عيسى المؤدب: وجع اسباني تحوّله قليبية إلى قصة مقاومة وعشق
- بقلم مفيدة خليل
- 09:22 26/10/2020
- 3677 عدد المشاهدات
«ما الانسان دون حرية يا ماريانا، قولي لي كيف استطيع أن احبك اذا لم اكن حرّا، كيف أهبك قلبي اذا لم يكن ملكي» بهذه القولة للشاعر الاسباني