رحيل السيدة نعمة: عرش من الأغنيات لا يسقط وبسمة مشرقة لا تنطفئ

رحلت السيدة نعمة الجمال والبهجة والفرح، وتركت لنا بسمتها المشرقة وأغنياتها الراقصة على إيقاع الحب والحياة ترياقا ضد النسيان وأملا عند السأم والحنين.

في نعيم صوت نعمة سباحة في فردوس النشوة وتحليق في سماوات عالية من المتعة، فأمام هذا الصوت العذب تنحني العنادل وتخشع البلابل... لم تكن السيدة نعمة تغني بل كانت تنثر الورود والسنابل والياسمين، فتكبر «أمّ القد طويلة صالحة» في ذاكرة جمهورها وتعظم صاحبة «الليلة عيد» في عيون مستمعيها ليهتفوا لها بالتهليل والتصفيق: «لا قبلك انت ولا بعدك»....

في صوتها صفاء رهيب ومن حنجرتها تنساب عذوبة عجيبة تأسر الآذان والأفئدة بالعشرات والآلاف حتى تربعت السيدة نعمة على عرش الأغنية التونسية ونالت لقب «فنانة تونس الأولى».

من الطفولة إلى اللحد : صوت نعمة خالد
بعد كر وفر مع المرض لسنوات طويلة، استسلمت نعمة لإلحاح الموت الذي كان يدنو منها كل مرة ويبتعد. رحلت السيدة نعمة صباح أول أمس الأحد عن عمر ناهز 86 بعد أن بقيت إلى آخر يوم في عمرها جميلة وأنيقة وصاحبة الابتسامة المشرقة.
في مدينة الثقافة صباح أمس الاثنين كان جثمان السيدة نعمة ملتحفا بعلم تونس ومدثرا بإكليل وباقة من الورود الحمراء والبيضاء فطالما غنّت صاحبة الصوت الذهبي للجمال والورود والتسامح... إلى جانب تابوت نعمة كانت صورتها في إطارها الخشبي تبتسم لكل من جاء ليودعها الوداع الأخير وهي في منتهى السحر والبهاء والبشاشة كما عاشت طوال عمرها صديقة الجميع وحبيبة الكلّ.

قد يكون «الرثاء، مديحا تأخّر عن موعده حياة كاملة» كما قال محمود درويش وقد تكون «وردة واحدة في يد إنسان على قيد الحياة، أفضل من باقة كاملة على قبره» كما يرى جبران خليل جبران، لكن ما يخفف عن جمهورها لوعة الفراق هو أن السيدة نعمة حظيت حتى آخر العمر بالاهتمام والحب وسارعت جل وزراء الثقافة بعد الثورة وكان لآخرهم وزير السياحة ووزير الشؤون الثقافية بالنيابة الحبيب عمار، اليوم الذي زار يوم الأحد 11 أكتوبر 2020 نعمة بالمستشفى العسكري بالعاصمة. كما تم تكريمها في سهرة خاصة في مهرجان الحمامات الدولي سنة 2019.

في تأبين السيدة نعمة بمدينة الثقافة، حضر عشاق فن نعمة وفنانون كثيرون أحبوها واحترموها على غرار محسن الرايس وصابر الرباعي و الممثلة عزيزة بولبيار وسلوى محمد والوزيرة السابقة سنيا مبارك ... تناول رئيس الحكومة هشام المشيشي الكلمة لتأبين فقيدة الأغنية التونسية السيدة نعمة، قائلا :»اليوم ونحن نوّدع الوداع الأخير مطربة فذة ملأت الدنيا وشغلت الناس و سكنت الأفئدة واستوطنت فيها من خلال مسيرة فنية خالدة ابتدأتها مبكرا في سن الحادية عشر، لا نملك إلا أن نقف وإكبارا إجلالا لسيدة نذرت عمرها حتى آخر رمق فيه لخدمة الفن التونسي وإعلاء شأنه في تونس وكل أصقاع الدنيا . اليوم تترجل السيدة نعمة وقد كانت حليمة بالنفوس والقلوب وشدت إليها الصغار والكبار لما تركته من إرث يفوق

الوصف. اليوم نقف بكل خشوع أمام مدرسة فنية إبداعية أبوابها مفتوحة لكل ناهل من فيض عطائها الذي لم ينضب يوما رغم التقدم في السن و رغم المرض وآلامه...في أزمور من معتمدية قليببة من ولاية نابل ولدت ابنة الوطن القبلي ذات 23 من شهر فيفري من سنة 1934 وانبرت مبكرا تنحت مسيرة فنية كانت منذ البداية شاهدا على نبوغها وتألقها وتميزها...بين أزمور ونهج الباشا في العاصمة كانت الراحلة فقيدة الأغنية التونسية والعربية لا تعير للوقت والتعب اهتماما وكان حسبها أن تكون حاضرة باستمرار في وجدان كل متابع ومحب لها.... انخرطت السيدة نعمة واسمها الحقيقي حليمة بالشيخ في المعهد الرشيدي وأصبحت من مطربات فرقة الرشيدية ولقبها الموسيقار الراحل صالح المهدي بنعمة ولحن

لها مجموعة من الأغاني العاطفية . وكانت الإذاعة التونسية نتقل كل نصف شهر حفلات الرشيدية مباشرة على الهواء ومن الإذاعة كان الانتشار ومع الانتشار كانت الشهرة التي جعلتها تدخل الحفلات العمومية من الباب الكبير كفنانة مطلوبة من كل الجماهير وفي بضعة أشهر كانت المطربة التونسية نعمة تجوب كل ولايات الجمهورية . غنّت فقيدة الأغنية التونسية والعربية مئات الأغاني وكانت متمكنة من كل الألوان الطربية من تلحين أشهر الفنانين العرب فمن تونس خميس ترنان و محمد التريكي و صالح المهدي والشاذلي أنور ومحمد رضا وسيد شطا وقدرور الصرارفي وعلي شلغم وعبد الحميد ساسي، ومن ليبيا حسن العريبي وسلام قادري كاظم مديني ومن مصر يوسف شوقي و سيد مكاوي. كل ما تقدم غيض من فيض وقطرة من بحر عطائها الذي لم ينقطع يوما لقد آلت على نفسها أن تكون سفيرة الأغنية التونسية ومدرسة فنية عريقة فأسرت قلوبنا طيلة مسيرتها الخالدة وستظل حتما حاضرة باستمرار في وجداننا تنير الأجيال المتعاقبة لما تركته له من إرث فني مرموق».

في مهرجان ألفية القاهرة سنة 1969 والذي لقبها على إثره الأديب الكبير يوسف إدريس بلقب «فنانة تونس الأولى» ، كان يمكن لنعمة أن تبقى في مصر وأن توافق على العروض العديد التي تلقتها هناك ولكنها رفضت الشهرة العربية والثروة لصالح الأغنية التونسية حتى تبقى جميلة وحيّة .
في سنواتها الأخيرة لم يكن المرض يؤلم السيدة نعمة بقدر ما كان يحز في نفسها عدم بث رصيدها الهائل من الأغاني الجميلة والخالدة والاقتصار في أغلب الأحيان على أغنية «ليلة العيد» !

فهل سيتم إنصاف أغنيات نعمة وإخراجها من خانة النسيان وهي التي حرصت طوال حياتها على غناء إنتاجها الخاص وعدم التمعش من أغاني الآخرين إيمانا بصوتها وحرصا على تجديد دماء الأغنية التونسية؟

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115