روبرتاج: مهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية في دورته الـ 33 : متحف الهواء الطلق مكسب ثمين و «حيّ الفنون» المطلب الحُلم !

كما أعاد مهرجان «كان» السينمائي رسم وجه باريس لتكون أجمل، فإن مهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية بدّل من حال مدينة المحرس

الهادئة وغيّر إيقاع يومياتها وفصولها.. كيف لا؟ والمدينة قد ارتدت فستان الفرح والحياة لترقص على أنغام الجمال والأحلام ولتتمايل على عزف سمفونية أمواج البحر من حولها ما بين مدّ وجزر. لقد نجح هذا المهرجان الشهير والعريق في تغيير وجه المدينة منذ ثمانينيات القرن الماضي لتتحوّل المدينة الصغيرة الساحلية إلى عاصمة للفن التشكيلي في تونس ومحّج لأشهر الفنانين العرب والعالميين في كل صيف وكل موسم فن.

في عام 1988 تأسس المهرجان الدولي للفنون التشكيلية على يد الرسام والمسرحي والفنان متعدد المواهب يوسف الرقيق في مسقط رأسه مدينة المحرس من ولاية صفاقس. وفي عام 2020 يجدّد المهرجان العهد والوعد برفع راية الفنون التشكيلية عاليا ونشر ثقافة الألوان الجمال بانطلاق الدورة 33 التي تتواصل فعالياتها ومعارضها إلى غاية 20 أوت الجاري تحت شعار ««المحرس متحف في الهواء الطلق».

لقاء فنانين وحوار فنون
مند عقود طويلة ومهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية يقاوم من أجل الصمود والثبات وحصد المزيد من النجاحات والإنجازات... وحتى أمام أزمة «الكورونا» وتداعيات الوضع الصحي الاستثنائي على المستوى العالمي لم تلق الهيئة المديرة للمهرجان المنديل ورفضت الانسحاب وتأجيل دورتها الثالثة والثلاثين. وفي ظل ظرف مخصوص، كان المهرجان مجبرا على الاكتفاء بالفنانين التونسيين والأجانب المقيمين في تونس وعدم استدعاء الفنانين من كل العواصم والقارات ككل العالم.

في ورشات مفتوحة اتخذت لها الفضاءات الخارجية وساحات المدارس أمكنة للرسم والسفر في عالم الألوان... هناك كان اللقاء مع الفنانة فوزية ضيف الله والأستاذة الجامعية بقسم الفلسفة بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس التي عبّرت عن سعادتها بالمشاركة لأوّل مرة في مهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية مضيفة بالقول: « أحمل انطباعات جيّدة عن هذا المهرجان الشهير على مستوى دولي وأتمنى أن يحافظ على بريقه وإشعاعه كما انطلق في دوراته الأولى. كما أشدّ على أيدي الهيئة التأسيسية وكافة المهتمين بالمشهد الفني والثقافي من أجل التكاتف في دعم هذا المكسب الثمين وحفظ مكانته كقبلة للفنّ التشكيلي من كل أنحاء العالم».

وعن مدى تفاعل الفن والفلسفة في رسم لوحاتها، قالت الفنانة وأستاذة الفلسفة فوزية ضيف الله : « إنّ الفلسفة فن والفن فلسفة ... وإلى جانب تخصصي في الفلسفة فأنا بصدد دراسة ماجستير بحث في نظريات الإبداع بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس. وعندما أرسم لوحاتي فإني أستعين بالفلسفة لملء بياض اللوحة بجملة من المفاهيم والتأملات الفلسفية ومحاولة محادثة الألوان والفضاء التشكيلي على طريقتي ودون تقليد الآخرين بفضل الزاد الفكري والفلسفي الذي أملكه... وكما الفلسفة فإن الفنّ لا يقدّم الإجابات بل يستفز الأسئلة ليبقى السؤال هو نصف الإجابة».

من جزيرة الأحلام جربة جاء الفنان التشكيلي محمد الخامس المصراتي ليواصل الحوار مع بوح البحر في مهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية معتبرا أن القيمة والسمعة التي كسبها المهرجان تؤهله إلى تأسيس رابطة أو مدرسة للفنون التشكيلية لفناني صفاقس والجنوب كي يكون للمهرجان عملا سنويا متواصلا لوضع تصوّر لمحتوى المهرجان والاتفاق على وحدة معيّنة تجمع الفنانين في التقنية والموضوع. كما أشاد بفرادة وخصوصية بمهرجان المحرس للفنون التشكيلية الذي أسس له مكانة خاصة ضمن المشهد الفني التونسي والعالمي بفضل حفاظه على القيمة الثابتة والجمالية العالية.

تقييم لحصاد المهرجان ومقترحات للتجديد
أمام مشاريع لوحات أو منحوتات، جلس الفنانون ووقف البعض الآخر يسائل مشروعه الفني : من أين تكون البداية وكيف يكون المنتهى؟ وفي النهاية يقف الجمهور حائرا أمام أعمال فنية مذهلة لنتساءل : « كيف اهتدى الفنان إلى ترجمة الفكرة إلى رسم و الشعور إلى ألوان و الكلام إلى أشكال ؟
في حيرة وقلق وحالة ترقب ، كان الفنان ماهر الطرابلسي ينظر إلى بياض لوحته ويتمعن في خامة ألوانه عسى أن تطرق ذهنه فكرة ما أو تجود عليه القريحة بتصوّر ما ... وبمجرد أن عثر على مصدر إلهام مستوحى من اللون الوردي، شرع هذا الفنان في محاورة لوحته ورسم ملامحها وهو الذي يشارك في المهرجان باستمرار ووفاء منذ التسعينيات. وقد ثمّن الفنان الذي يُجيد الرسم على الخزف ماهر الطرابلسي قدرة مهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية على الصمود في مكانه والحفاظ على مكانته كتقليد سنوي يحج إليه الفنانون من كل أصقاع العالم رغم ضعف الإمكانات المادية و تزايد إشكالات الفن التشكيلي عموما.

بعد أن أضاف لتجربتها الكثير وأثرى مسيرتها الفنية، تعود الفنانة التشكيلية الشابة والباحثة في شهادة الدكتوراه غادة بالعابد للمرة الثانية إلى مهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية لتشغل على المفردة في لوحتين من الفن التجريدي وشبه التشخيصي في استلهام من المكان وأجواء الورشة. وبالرغم من غياب المشاركة الأجنبية في الدورة 33 بسبب الوضع الصحي العالمي، فإن الفنانة غادة بالعابد اعتبرت أن للفنانين التونسيين وزن مهم وقدرة كبيرة على إنجاح المهرجان مقترحة اعتماد هذه التظاهرة التشكيلية الكبرى على الرقمنة لمجاراة العصر وتجاوز الحواجز الجغرافية بسبب الظروف الطارئة على غرار التواصل والمشاركة عبر المنصات الرقمية وأيضا إدخال الرقمنة في الفضاء التشكيلي على غرار تقنية «المابينغ وغيرها من التعبيرات الحديثة.

في مزج بين ألوان حيّة ومرحة، كانت خريجة الفنون الجميلة جيهان الخالدي ترسم بطاقة إيجابية لوحتها وتحاور بأمل أشكالها حتى يهزم الفن قبح الواقع وينشر السلام والجمال في عالم مضطرب بأزماته وقضاياه ومفجوع من كوارثه وإفلاسه... وإن تحدثت هذه الفنانة عن إيمانها بقدرة الفن على التغيير والتأثير وبناء المجتمعات الراقية والمتحضرة، فإنها في المقابل أبدت امتعاضها من تخلي السلطات المحلية عن دورها في نظافة المحيط وتكدس الأوساخ والقمامة في قلب «حديقة الفنون « بمدينة المحرس رغم أنها تضم منحوتات ومجسمات للفنانين مبدعين أهدت أناملهم للمهرجان والجمهور العريض كثيرا من الجمالية والروعة فلم تحسن البلدية رعايتها وصونها. وكشفت الفنانة جيهان الخالدي أن الفنانين المشاركين في المهرجان تقدموا بطلب تمكينهم من المعدات اللازمة للقيام بحملات نظافة تطوعية حتى لا تغطي بشاعة منظر الأوساخ على الجمال الذي تنطق به الأعمال الفنية من لوحات ومنحوتات ومجسمات...

خروج بالفن من الأروقة المغلقة إلى الفضاء العام
من سمات مهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية ونقاط قوته التي منحته مكانة متفردة وخصوصية عالمية هي القطع مع ممارسة الفن «بين الجدران» وعدم الاكتفاء بعرض الأعمال الفن داخل الفضاءات المغلقة بل الخروج بها إلى الفضاء العام لتنشر ثقافة الجمال بين الناس البسطاء وتجعلهم يحتكون بالفن في ممارستهم لليومي والمعتاد. أيضا سعى المهرجان إلى إخراج الفنان من عزلته مع لوحته أو منحوتته... كثيرا ما اعتاد الرسم أو النحت في مرسمه الخاص بعيدا عن العيون وفي خلوة مع أدواته وألوانه... إلا أن الفنانين المشاركين في مهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية يرسمون على الملأ ويكون خلق أعمالهم الفنية أمام العيان.

وفي ورشات الدورة 33 من المهرجان، اجتمع الفنانون في مكان واحد لينهي كل واحد عمله في حوار عن الفن والحياة وتبادل للخبرات والتقنيات والنظريات... ومن شاء من الفنانين الاختلاء مع لوحته في حديث ثنائي فإنه يستعين بالموسيقى ليغوص في عوالم الفن ويسبح في مدارات الخامات والألوان.

ولأنه رفض الانغلاق والأروقة المغلقة واختار الانفتاح على الفضاء والناس والعالم، فإن مهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية اختار أيضا عدم إقصاء أي كان من عشاق الفنون التشكيلية سواء كانوا محترفين أو هواة، مختصين أو طلبة ، مشهورين أو مبتدئين... كما فتح المهرجان أبوابه وأحضانه لكل الأجيال، فقد كان للأطفال نصيب من الورشات والمشاركات في المعارض، في هذا السياق قالت الطفلة آية الرقيق أن المهرجان منحها فرصة ثمينة لصقل موهبتها ولتنمية عشقها للريشة والألوان سيما وهي ترى كيف يرسم الكبار وتستشيرهم في توزيع خطوط لوحتها واختيار خامتها... من أجل هذا كله فإن الأطفال ينتظرون كما «الكبار» انطلاق المهرجان في كل عام .
لئن قال الفنان الفرنسي «هنري ماتيس» إن «وظيفة الفنان ليس أن يرسم ما يراه ولكن أن يعبّر عن الدهشة التي يسببّها ما يراه وينجح في التعبير عنها بقوّة»، فإن مهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية يثير عند كل زائر له دهشة لا متناهية بقدرة المدينة الصغيرة على صناعة المعجزة الكبيرة.

مدير المهرجان إسماعيل حابة لـ«المغرب»:
تطوير المهرجان رهين تنفيذ مشروع
«حيّ الفنون»

كانت بمثابة المغامرة والتحدي إذ الصعب، انطلقت الدورة 33 من مهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية في الوقت التي علّقت فيه جلّ التظاهرات الفنية في تونس والعالم برمجتها ونشاطها... وفي هذا الإطار صرّح مدير المهرجان وأحد أهم مؤسسيه إسماعيل حابة لـ «المغرب» بالقول : «منذ شهر جانفي 2020 انتهينا من وضع برنامج المهرجان يليق بعراقته وسمعته الدولية إلا أن وباء الكورونا أجبرنا على تعديل البرمجة كخيار أفضل يدل عن حجب المهرجان لهذه السنة. ولم ير المندوب الجهوي للثقافة بصفاقس مهذب القرفي مانعا في تنظيم المهرجان سيما وأنه يتخذ من الهواء الطلق فضاء ومن السهل تطبيق توصية التباعد الاجتماعي بين رواده وجمهوره. أيضا لم تكن ميزانية المهرجان لهذه الدورة كما السابق حيث خسرنا أغلب المساهمات المتأتية من القطاع الخاص ولولا دعم وزارة الشؤون الثقافية لميزانية المهرجان لما تعذر علينا فعلا تنظيم الدورة 33 لسنة 2020.

منذ الثمانينات والمهرجان راكم الإنجازات والتجارب وكذلك اللوحات والمنحوتات والمجسمات... وعن حصيلة أكثر من ثلاثة عقود من الفن، صرّح المدير إسماعيل حابة أن المهرجان يفتخر بامتلاك 1800 لوحة بإمضاء كل الأجيال من المحترفين والهواة ومنها لوحات قيّمة وثمينة لرواد الفن التشكيلي في تونس وأشهر أعلامه على غرار الهادي التركي ورضا بالطيب وعادل مقديش ولمين ساسي والفنان الأردني محمد جلوس والفنانين أبراهام حاجو وصهيب قدور من سوريا وغيرهم...

كما يزّين شاطئ المحرس 70 عملا فنيا من مجسمات ومنحوتات وأعمال فنية مختلفة مما بوّأ مهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية مكانة المهرجان الفريد من نوعه والوحيد في تونس والقليل في العالم الذي فتح متحفا للفن المعاصر في الهواء الطلق.

وردا عن سؤال «المغرب» حول تكرار المهرجان لنفسه وفقراته وبرمجته... أجاب المدير إسماعيل حابة بالقول:» لا أنفي وجود هذا التكرار الذي سقط فيه المهرجان منذ الثورة إلى الآن رغم طموحنا في التطوير وحرصنا على التجديد إلا أن شح التمويلات وتواضع الإمكانات يحول بيننا وبين تحقيق ما نروم إليه من أهداف ورؤى. ويبقى الحلم الأكبر والمطلب الملح لمهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية هو إنجاز مشروع «حيّ الفنانين» الذي يضم متحفا وقاعات للعرض والندوات وإقامة للفنانين... لكن للأسف هذا المشروع المتعثر منذ عام 1997 لم يجد طريقه إلى التحقيق لأسباب مادية بالأساس! ».

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115