رحيل أوّل وزير للثقافة الشاذلي القليبي: رجل دولة مدّبر ومؤسس وصاحب فكر وقاد ولامع

في رحيل عظماء الإنسانية وقادة الفكر والثقافة تنطفئ منارة وتغيب ذاكرة كانت تضيء الدرب وتبني الأسس والأوتاد لإقامة مجتمع

العلم والمعرفة ودولة التحرّر والتحضر... وقد تعظم مصيبة المنيّة وتشتد لوعة الموت، حين يكون الفقيد رجلا جليلا أفنى العمر في خدمة شعبه وبلده واقترن اسمه بالتأسيس، فكان أول وزير للثقافة في تونس والتونسي الوحيد الذي ترأس جامعة الدول العربية... ما بين مناصب السياسية ومقاعد الإعلام وصفحات الكتب.. وزّع الشاذلي القليبي أيامه وفصول حياته بكل اجتهاد وسخاء. وكان في كل موقع صاحب موقف صارم ورأي لا يجامل ولا يهادن... فاستحق تقدير الجميع في حياته وأسف الكل عند رحيله...

وافت المنيّة فجر أمس الإربعاء 13 ماي 2020 السياسي والمفكر الشاذلي القليبي بمنزله بضاحية قرطاج عن سنّ تناهز 94 عاما.

المسعدي غيّر مساره من الطب إلى الآداب واللغة العربية

في حضن عائلة مناضلة في سياق الحركة الوطنية لتحرير تونس من الاستعمار الفرنسي، ولد الشاذلي القليبي يوم 6 سبتمبر1925 في تونس العاصمة. زاول تعليمه بالمدرسة الصادقيّة حيث تلقى تعليما مزدوجا باللغتين العربية والفرنسية .وبعد حصوله على شهادة الباكالوريا، التحق بجامعة السربون التي حصل منها في سنة 1947 على الإجازة في اللغة والآداب العربية وذلك قبل أن ينجح في مناظرة التبريز.

ولولا أديب تونس الكبير محمود المسعدي لكانت اللغة العربية قد خسرت ابنها البار الشاذلي القليبي الذي كان ينوي دراسة الطب قبل أن يتدّخل صاحب «السدّ» ويغيّر من مصير بطله وتلميذه في اللحظة الحاسمة. وفي هذا السياق كشف الراحل الشاذلي القليبي في حوار لمجلّة «ليدرز» سنة 2015 التفاصيل التالية :» تعلّقت همّتي أنا وصديقي محمود بالناصر بدراسة الطب، وفعلا سافرنا إلى فرنسا يوم غرّة أكتوبر 1945 على ظهر باخرة اسمها Chanzy وكان معنا أيضا الأمين بلاّغة وعبد العزيز بن حسن. وبينما كنت أتأهّب للتّسجيل في كليّة الطب وصلتني رسالة من والدي يقول لي فيها: «لقد زارنا في المنزل الأستاذ محمود المسعدي (وكان من أساتذتي في الصادقية) وسلّمني هذه الرسالة التي لم أفتحها وأبعث بها إليك طيّه.» ويقول لي فيها سي محمود : «إذا كنت تعتقد أنّ الطبّ الذي تتوجّه لدراسته يخدم البلاد فإنّك مخطىء». لم يدخل فيها أكثر في التّفاصيل. فهمت قصده. ومن الغد ذهبت إلى السربون وسجّلت في قسم اللّغة والآداب

عندما عاد إلى تونس بدأ الراحل حياته المهنية بالتدريس في المعاهد الثانوية في تونس ثم التحق بالتدريس في المعاهد العليا حيث كلف بإلقاء دروس في معهد الدراسات العليا بتونس، وفي سنة 1957 تفرغ للتدريس الجامعي.

سنة 1958 قام الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة بتعيين الشاذلي القليبي مديرا عاما للإذاعة والتلفزة التونسية رغم اعتذاره في البداية عن قبوله المهمة للتفرغ لرسالة الدكتوراه. إذ يضيف الشاذلي القليبي في حواره إلى مجلة «ليدرز» استبعد بورڤيبة اعتذاري قائلا: «لا ! لازم تخدم بلادك!» ... الأهمّ قبل المهمّ المطلوب منك أن تُمسك بزمام الإذاعة وتُنظّمها لتتولّى الدّفاع عن تونس ومواجهة الأبواق المفتوحة ضدّها و إنّي أكلّفك بهذه المهمّة لمّا تسلّمت مهامّي على رأس الإذاعة التّونسيّة لم أجد فيها آنذاك سوى بعض المذيعين وشابّين دون مهمّة محدّدة، هما التّيجاني زليلة ومصطفى الفارسي، فكلّفت الأوّل بإدارة البرامج والثاني بالعلاقات الخارجيّة والتعاون الدولي واستعنت في مهامي بالسّيد حمّدي النّيفر الذي عرّفني بالوسط الفنّي وفي المقدّمة صالح المهدي وبدأنا في تكوين مناخ فنّي وثقافي واحداث لجنة متابعة اللّغة العربيّة.»

يعتبر الأستاذ الجليل الشاذلي القليبي من أبرز أعلام الفكر والثقافة في تونس حيث اقترن اسمه بالتأسيس والانجازات الكبرى في قطاع الثقافة منذ توليه حقيبة وزارة الثقافة سنة 1961 حيث أسندت إليه مهمة إنشاء هذه الوزارة فشهد له التاريخ بأنه كان فلتة من فلتات العصر في تسيير وزراة الثقافة وإدارة شؤون الإبداع ..

وفي سنة 1974 أسند إليه الرئيس بورقيبة منصب رئيس الديوان الرئاسي، ثم أسندت إليه وزارة الثقافة من جديد في عام 1976.وفي سنة 1978 تم تعيين الشاذلي القليبي وزيرا للإعلام.

فلسطين أهدته «الوشاح الأكبر»

لئن احتكر المصريون الأمانة العامة لجامعة الدول العربية منذ تأسيسها سنة 1945 إلى الآن في سنة 2020 ، فإن الشاذلي القليبي هو التونسي الوحيد الذي شغل هذا المنصب من 1979 وحتى 1990 . ولأنه رجل مواقف صارم وصاحب رأي جسور، فقد خرج الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية من الباب الكبير حيث قدّم استقالته من المنظمة احتجاجا على حرب على العراق عقب الهجوم الذي شنه الجيش العراقي على الكويت في فترة حكم الرئيس الراحل صدام حسين.

«الشاذلي القليبي نموذج للشخصيات العربية التي كانت تعمل دون أن تتكلم، ودون رفع شعارات، وهذا ما جعل الرئيس عباس يقدم له أعلى وسام ووشاح في فلسطين»هكذا تحدث سفير فلسطين في تونس «هائل الفاهوم» عن الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية وأول وزير للثقافة في تونس الشاذلي القليبي عند تسليمه نيابة عن رئيس بلاده محمود عباس وسام «الوشاح الأكبر» (نجمة فلسطين) سنة 2017 .

«تونس وعوامل القلق العربي» آخر الكتب...آخر الوصايا

إن تعترف تونس للفقيد الشاذلي القليبي بفضله في هندسة ملامح السياسة الثقافية في تونس ورسم الرؤى الفكرية، فإن هذا الرجل صاحب الفكر الوقاد والثقافة الواسعة والرأي الحكيم والرصين.... لم يكن فقط وزير الكراسي ولا مسؤول المناصب بل كان المفكر والباحث والكاتب غزير النشاط والإنتاج. وقد تقلد الراحل عضوية مجمع اللّغة العربية بالقاهرة ونشر عديد المقالات في السياسة والأدب والثقافة... كما ألف عديد الكتب على غرار «العرب أمام قضية فلسطين»، و»من قضايا الدين والعصر»، و»أمة تواجه عصرا جديدا»....وبعد الثورة ، أصدر الشادلي القليبي سنة 2012 أصدر كتابا بعنوان «أضواء من الذاكرة : الحبيب بورقيبة».

وقبل الرحيل الأخير، كان الشاذلي القليبي سخيا في فكره ومعطاء في معرفته ..فأبي أن يغادرنا دون أن يترك لنا كتابه الأخير هدية وعربون وفاء. منذ أشهر صدر الكتاب الجديد والأخير للفقيد الشاذلي القليبي بعنوان«تونس وعوامل القلق العربي» عن دار الجنوب في 210 صفحة مبوّبة في ستة فصول وهي : من وحي أيام الثورة ، وجوه من الإرث البورقيبي،الإسلام في مواجهة العصر:هل مازلنا أمة ؟ ، التكامل العربي والقضية الفلسطينية ،من عوامل استقامة الحضارة ،في السياق البورقيبي.

وفي الفصل الافتتاحي لكتاب «تونس وعوامل القلق العربي» والذي جاء تحت عنوان: «لماذا هذا الكتاب ؟» أشار الشاذلي القليبي إلى اختياره البحث في الأسباب التي كانت وراء اندفاع فئات كثيرة من مجتمعاتنا العربية إلى سلوك منقوص يتمثل في التركيز على العبادات دون ما ينبغي أن يصاحبها دوما من مكارم بها كان للأمة الإسلامية إشراق تميزت به عن سائر الأمم في عصرها الأول. ..اندفاع أفضى بها إلى التقهقر والانحطاط والسبب هو المبالغة في الاهتمام بالدراسات الدينية وإهمال العلوم التي لها القدرة على تنمية طاقات المجتمع وهو ما جعل ثقافتنا تفقد شمولية أجيال متتالية في الدراسات الدينية وبعض مكملاتها من أدب ولغة ومنطق».

في وضع كتاب «تونس وعوامل القلق العربي»، رافق الدكتور عبد العزيز قاسم الفقيد الشاذلي القليبي بوضع تقديم هذا الأثر وفي تقديمه أيضا شفويا نيابة عنه إلى القرّاء عند توقيعه في «مكتبة الكتاب» وذلك بسبب تدهور الحالة الصحية للراحل.

وقد سئل الراحل الشاذلي القليبي ذات مرّة عن نيّته في كتابة مذكراته ، قال: «لا أعتزم كتابة مذكّرات، لأنّي أعتقد أنّ الذاكرة خائنة في أغلب الأحوال..» فممّا لا شك فيه أن الذاكرة لا يمكن أن تنسى اسم رجل دولة من الطراز الرفيع وذكرى سياسي ومفكر ومؤسس قد يصعب تكراره مرّتين !

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115