أو من وراء الكواليس بالتأثير على قرارات الحاكم أو السلطان. وليست تونس بمعزل عن هذا السياق العام، فقد حكمت «عليسة» قرطاج وقاومت «الكاهنة» جيوش حسان بن النعمان وفرضت «أروى القيروانية» على أبي جعفر المنصور الصداق القيرواني... والقائمة تطول وصولا إلى تونس المعاصرة، حيث حكم الرئيس الحبيب بورقيبة تونس ما بعد الاستقلال في صورة «المجاهد الأكبر» و»صانع الأمّة» إلا أنّ قصر «الزعيم» لم يخل من إدارة خفيّة قادتها «الماجدة» وسيلة بن عمّار.
«وسيلة بورقيبة، اليد الخفيّة» عنوان الكتاب الجديد للمختص في التاريخ المعاصر نور الدين الدّقي والصادر حديثا عن «دار الجنوب» للنشر في أكثر من 300 صفحة جاءت باللغة الفرنسية.
خفايا وأسرار عن وسيلة بورقيبة
حمل الغلاف الخارجي لكتاب «وسيلة بورقيبة، اليد الخفيّة» صورة لزواج بورقيبة بوسيلة، وهما يتبادلان نظرات عميقة قد توحي بالعشق والهيام وقد تكون مفتوحة على أكثر من تأويل وعلى كثير من الأسرار!
وكما يوحي عنوان الكتاب لصاحبه نور الدين الدقي، فقد تتالت الصفحات والشهادات التي سعت إلى إماطة اللثام عن خفايا شخصية نسائية كان لها تأثير في تاريخ تونس وكانت محل جدل وصخب في العهد البورقيبي. وإن غاب من ملامحها الكثير وبقي البعض من تفاصيلها مجهولا!
وقد دار مبحث المؤرخ نورالدين الدّقي في فلك السؤال التالي: من هي وسيلة بورقيبة ولماذا تركت بصمتها في تاريخ تونس المعاصر؟ وعبر صفحات كتاب «وسيلة بورقيبة، اليد الخفيّة» يسعى المؤلف إلى استكشاف الكون المغلق لامرأة غير عادية صاغت مصيرها السياسي من خلال مثابرتها ومهاراتها الشخصية و حدة ذكائها... انطلاقا من ولادتها في حضن عائلة بن عمار البرجوازية وصولا إلى قصر بورقيبة.
بالعودة إلى السيرة الذاتية لوسيلة بن عمّار غير المألوفة وغير المعروفة، يتوّغل المؤلف في معطيات تاريخية ووقائع حقيقية لسبر أغوار حياة امرأة لم تكن ككل النساء. كيف لا؟ وهي زوجة الزعيم الحبيب بورقيبة ومستشارته الرئيسية طيلة 40 سنة من حكم تونس بعد الاستقلال.
كما تطرق مؤلف الكتاب إلى شخصية وسيلة بورقيبة الناشطة والفاعلة في حراك المجتمع المدني على غرار مساهمتها في بعث جمعية المرأة المسلمة إثر فيضانات الثلاثينات.
بورقيبة ووسيلة: نهاية «شكسبيرية»
في الكتاب سيرة شخصية سياسية قوية الشخصية والحضور، نحتت اسمها في الذاكرة التونسية باعتبارها لم تكتف بمجرد صفة زوجة الرئيس بل تركت بصماتها في حلقات تاريخ بلادنا. ويذكر المؤلف أنه كان لوسيلة بورقيبة من بين ما كان لها من الأثر والأدوار معايشة ثلاثة أحداث كبرى ومهمة وهي تغيير التوّجه التنموي وتبني الاشتراكية في الستينيات والاحتجاجات الشعبية في 26 جانفي 1978 وانتفاضة الخبز سنة 1984.
وعلى امتداد 17 فصلا رئيسيا مرفقا بمحاور فرعية، يقتفي المؤرخ نور الدين الدّقي أثر وسيلة بورقيبة في الطفولة والصبا وفي قصر الرئيس. وبالرغم من انقطاعها عن الدراسة في مرحلة التعليم الثانوي بسبب إصابتها بالسل، فإن ذلك لم يمنع وسيلة من اكتساب أفكار التحرر والوعي وهي سليلة أب متحزب انخرط في الحزب الحرّ الدستوري وانتصر إلى عبد العزيز الثعالبي. كان لقاؤها الأول ببورقيبة في 12 أفريل 1943 بعد عودته من المنفى ليتزوجا في 12 أفريل 1962 لتكون الزوجة الثانية لبورقيبة ويكون هو زوجها الثاني بعد طلاقها من علي الشاذلي.
ويسلط كتاب «وسيلة بورقيبة، اليد الخفيّة» الضوء على موقع هذه المرأة في الحياة السياسية التونسية حيث كانت لها القدرة على تعيين الوزراء وعزل المسؤولين وإزاحة السياسيين... ولم تتوقف صلاحيات وسيلة بورقيبة عند الشأن الداخلي بل كان لها تدخل في السياسة الخارجية التونسية على غرار معارضة الوحدة مع ليبيا ودعم القضية الفلسطينية .
ولم يكتف المؤرخ نور الدين الدقيّ في تحبير صفحات كتابه بالمراجع المكتوبة بل أرفقها بباقة شيّقة من الشهادات الحيّة لشخصيات عرفت وسيلة بورقيبة من قريب أو من بعيد. وجاءت هذه الشهادات على لسان كل من عبد العزيز قاسم و أحمد ونيس وعلي معاوي وعمر شادلي وبشير تركي وهاجر بورقيبة وحمودة بن عمار وهادي بكوش وهالة باجي ولمين بلاغة و سالم منصوري وسالم صباغ وصلاح الدين فرشيو وطاهر بلخوجة.
ولئن انتهت علاقة بورقيبة بوسيلة بن عمار نهاية «شكسبيرية»، فإن طلاقها من بورقيبة سنة 1986 لم يطمس بصمتها في تاريخ تونس وفي مرحلة بناء الدولة الحديثة. ولاشك أن كتاب «وسيلة بورقيبة، اليد الخفيّة» لنور الدين الدّقي جاء ليؤثث المكتبة التونسية بمرجع حديث ومختلف الطرح والفصول عن مسيرة امرأة قلبت الأدوار وغيّرت الأقدار.