ما بعد زيارة ألبرتو مانغويل إلى تونس: المثقفون التونسيون يُوقعون بـ«السلطة» ويوّقعون على الانتصار

جاء ألبرتو مانغويل إلى تونس ورحل. ولم يحمل معه سوى ورود وعبق ذكريات، كما أتى وليست في زاده إلا كتب وفكر حر... فما ضرّ لو حفظت سلطة الإشراف

ماء وجهها واستضافت كما وعدت الرجل؟ حضر الكاتب العالمي وتكلم كثيرا عن الأدب والمطالعة والمعرفة ولم يخرج أبدا عن حدود الأدب! وأبدا لم يكن «الرجل المكتبة» ليهدد الأمن العام أو يشكل أزمة دبلوماسية وهو الذي علمنا أن الكتب موطن السعادة ووسادة الحب ونصيرة الإنسانية... بل بكل حب وطأ أرض تونس، وبكل ود غادر ترابها على أمل أن يتجدد اللقاء ! وقبل الرحيل ، التقط صورا في متحف باردو وفي مناطق جميلة من تونس كفيلة بأن تروّج لسياحتنا وصورتنا عند أحباء الرجل الكثيرين وجمهوره الغفير.
بالرغم من كل شيء، لم يستسلم بيت الرواية إلى الأمر «المسطر والمكتوب» على الورق الرسمي، بل انتصر إلى وعده مع جمهوره والتزم باتفاقه مع الكاتب الأرجنتيني الكندي ألبرتو مانغويل في أن يكون ضيفا على تونس ومحل تقدير وتكريم.
من بيت الرواية إلى المكتبة الوطنية: تغيّرت الوجهة والعبرة واحدة
من قال إن المثقف التونسي بلا موقف ولا قرار، فليراجع حساباته! ومن شكّك في شجاعة هذا المثقف في الوقوف في وجه السلطة، فهو بلا شك على خطإ ! لقد أثبتت هبّة المثقفات والمثقفين لنصرة مدير بيت الرواية كمال الرياحي على إثر تخلي وزير الشؤون الثقافية محمد زين العابدين عن استضافة ألبرتو مانغويل في الدقيقة التسعين أن المستحيل ليس تونسيا وأن أهل الفكر والإبداع قادرون على تعديل الأوتار وقلب الأدوار ليكونوا هم الفاعلين لا المفعول بهم !
كان يكفي أن تبادر ثلة من المثقفين على غرار شكري المبخوت ورجاء بن سلامة وماهر عبد الرحمان ونصر الدين اللواتي وآدم فتحي وحبيب الزغبي وطبعا فريق بيت الرواية بتحمل نفقات استضافة ألبرتو مانغويل حتى يصفق الجميع على هذه الجرأة والنخوة الذي نحتاجها في نخبتنا اليوم وغدا وفي كل الأوقات. 
وليس غريبا أن تحصد الدكتورة رجاء بن سلامة كما هائلا من التحية والإعجاب، وهي التي فتحت أبواب المكتبة الوطنية على مصراعيها لاستقبال «الرجل المكتبة» بعد أن تم التضييق على بيت الرواية في الاحتفاء بضيفه كما يريد!
 رغم محاولات العرقلة والإحباط، استقبل مدير بيت الرواية كمال الرياحي ضيفه ألبرتو ما نغويل في اليوم المحدد والموعد المبرمج ليوم السبت 22 فيفري 2020 دون تغيير ولا تأجيل فقط مع تغيير بسيط في المكان من مدينة الثقافة إلى المكتبة الوطنية، ولم يفسد ذلك للود قضية طالما أن اللقاء كان في حضرة ثروة وطنية من الكتب والمجلدات والمخطوطات....
وفي كلمته قال الروائي كمال الرياحي من بين ما قال :«لا أحد في تونس الجديدة قادر على حجب المعرفة وحرمان الشعب من الحق في الثقافة، فمرحبا بالكاتب الموسوعي الكبير ألبرتو مانغويل الذي ناضل ضد الديكتاتوربة في أمريكا اللاتينية بمواقفه وكتبه. وهذا هو سبب من أسباب إصراري على مجيئه في هذه اللحظة التاريخية التي تمر بها تونس من الانتقال الديمقراطي».
وقد توّجهت المديرة العامة لدار الكتب الوطنية رجاء بن سلامة إلى ضيفها ألبرتو مانغويل بالقول: «أشاطرك شغفك بالكتاب والقراءة، واندهاشك من هذه الكائنات العجيبة، التي هي الكتب والوثائق. وأشاطرك حبك لهذه المعابد من نوع خاص، أي المكتبات. وأشكرك على مجيئك إلى تونس التي تحررت حديثا من الاستبداد والاعتباطية، وأرحب بك في المكتبة الوطنية التونسية التي تستضيفك كاتبا وقارئا ومديرا سابقا للمكتبة الوطنية الأرجنتينية».
ألبرتو مانغويل يدعو إلى تأسيس مكتبة وطنية فلسطينية
كانت خطى ألبرتو مانغويل إلى منصة المكتبة الوطنية تدوس على حواجز أوهام سعت عبثا إلى عرقلة لقاء بين كاتب وجمهور، قارئ وقراء آخرين دون تقديم تفسير منطقي أو مبرر عقلاني. وبكثير من الحب والمتعة تحدث مانغويل إلى مستمعيه الذين غصت بهم مقاعد قاعة الطاهر حداد بالمكتبة الوطنية، وأجاب بكل أريحية وعفوية عن أسئلة الشاعر التونسي آدم فتحي وهو الذي أدار الحوار على أعتاب الأدب وتخوم الفلسفة.
بسط ألبرتو مانغويل الكثير من الأفكار والمواقف والرؤى، معتبرا أن المطالعة لا يمكن أن تكون فعلا إلزاميا بل هي فعل حب ومصدر سعادة ...ويتبنى ألبرتو نظرية ملهمه «بوخريس» بأن الأدب لا جنسية له، بل إن الشعوب ترحل والأدب هو الوطن الباقي.
إن من قضى العمر قارئا وكاتبا، محاضرا ومستمعا في حضرة الكتب وفي أحضان المكتبات لا يمكن إلا أن يكون نصيرا للحق ومتعاطفا مع المضطهدين ومدافعا عن المظلومين... وبكل شجاعة تكلم ألبرتو مانغويل عن فلسطين وعلاقته بشاعرها محمود درويش وصدح بكل حماس بمعاناة الشعب الفلسطيني ومأساة أطفال فلسطين بين التقتيل والتشريد. ولم يكتف ألبرتو ما نغويل بالتنديد والتذكير بوجع فلسطين بل استفز كل العرب والشعوب الحرة ودعاها إلى أن تتحرك لإنشاء مكتبة وطنية فلسطينية ولو افتراضيا على شبكة الانترنات لتوثيق شتات الذاكرة الفلسطينية التي تغتصب وتزوّر كل يوم. وقد صرّح في هذا السياق بالقول:»عند إدارتي للمكتبة الوطنية في الأرجنتين، سعيتُ إلى بعث مكتبة وطنية فلسطينيّة افتراضية ، واتصلت بمكتبات كثيرة في فرنسا وأمريكا وغيرهما لتأمين ما يمكن الحصول عليه من آثار وكتب ومؤلفات... لكن للأسف لم أجد تفاعلا وصدى لدى الفلسطينيين. وعلى المثقفين العرب أن يسعوا لتأسيس مكتبة وطنية فلسطينة لحفظ الذاكرة الفلسطينية».
لململم ألبرتو مانغويل أوراقه وحقيبته التي تشربت عطر تونس وعبق قرطاج وغادر من حيث أتى، ولكن لا شك أن هدية بيت الرواية المتمثلة في مجسم لشخصية «برق الليل» كما أبدعها البشير خريف ستظل تذكره بزيارة استثنائية إلى بلد يفخر بمثقفين استثنائيين يتحدون السلطة ويغيّرون الواقع ويفتحون نوافذ الحرية على أفق أرحب وصبح أجمل.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115