اهتدى رئيسها الحبيب الجملي إلى خارطة «الطريق» وأعلن عن قائمة وزرائه المختارين في انتظار مصادقة البرلمان. وكان منصب وزير الشؤون الثقافية من نصيب الفنان المسرحي فتحي الهداوي. وهو ما شكّل مفاجأة غير متوّقعة للبعض، ومدعاة لانقسام الآراء بين المدح والاستهجان...
من المضحكات المبكيات أن تصدر عن الفنانين والمثقفين أنفسهم مواقف من وزير الشؤون الثقافية المقترح فتحي الهداوي والتي لا تناقش قدرة الرجل على النجاح في مهمته بل تخلط بين أدواره في الدراما وصفاته في الواقع وتقيس عليها شكل الوزارة القادمة !
بعد الوزراء الموسيقيين... وزير من المسرح
قد يكون كرسي الوزارات مرغوبا ومطلوبا وحلم العمر عند الكثيرين ولكن في المقابل قد لا يكون هذا الموقع طموح البعض سيما حين يكون الطريق إلى المنصب مزروعا بالألغام وشائك الأسلاك... ويبدو أن رئيس الحكومة الحبيب الجملي قد حاول في اختيار وزير الشؤون الثقافية المقبل التوّجه نحو استقطاب الأسماء المعروفة والشخصيات الشهيرة على غرار لطفي بوشناق وعلي اللواتي... إلا أن بهرج وظيفة الوزير سقط في عيون هذه الشخصيات وفضلت أن تكون سلطتها لا في الكرسي بل في سطوة الفنان وحظوة المثقف بين الناس.
وبعد تداول أسماء عديدة مرشحة لكرسي وزارة الشؤون الثقافية، لعل أبرزها ابن الوزارة ورجل الميدان الثقافي محمد الهادي الجويني والمديرة السابقة للمركز الوطني للسينما والصورة شيراز العتيري والشاعرة آمال موسى... انتهى الأمر إلى الإعلان عن تسمية المسرحي فتحي الهداوي وزيرا جديدا خلفا لمحمد زين العابدين.
في السنوات الأخيرة، اعتاد جمهور الثقافة على أن يكون مدير مهرجان قرطاج الدولي قاب قوسين أو أدنى من منصب الوزير وقد تكرّر الأمر مع كل من مراد الصكلي وسنيا مبارك ومحمد زين العابدين. كما يشترك هؤلاء الوزراء في انتمائهم للقطاع الموسيقي. ومع تعيين فتحي الهداوي تم كسر هذه العادة التي استحالت إلى شبه «قاعدة» ، ليكون الهداوي بعد رؤوف الباسطي ثاني وزير للثقافة قادم من ركح المسرح.
فنان موهوب...فهل يكون وزيرا ناجحا؟
لم يمر تعيين فتحي الهداوي مرور الكرام، بل صاحبت هذه التسمية التي تنتظر نيل ثقة مجلس النواب ضجة كبيرة وصلت إلى حد الثرثرة المجانبة للصواب على غرار التشكيك في المستوى التعليمي للوزير المقترح والحال أنه خريج المعهد العالي للفن المسرحي بتونس سنة 1986. كما انهمرت الصور في محاولة لإثبات علاقة هذا الفنان بحزب حركة النهضة ورئيس حركتها راشد الغنوشي في دلالة على أن هدا التعيين جاء على أساس الولاءات لا الكفاءات .
ولا يختلف اثنان في القيمة الفنية لفتحي الهداوي الذي صال وجال على خشبة المسارح وأركاح الفن الرابع وكان له ظهور على شاشات السينما العربية والأوروبية، كما أقنع وأبدع في الدراما التلفزية من تونس إلى سوريا و هو الذي يخلع عنه ثوب الممثل العابر ليلبس رداء الصدق في أداء مختلف الأدوار التاريخية والكوميدية والتراجيدية بمنتهى الحرفية والإتقان حتى أصبح الممثل الأغلى أجرا في تونس والبطل الذي لا تستغني عنه المسلسلات الرمضانية طالما أنه يتلوّن كـ «الحرباء» من دور إلى آخر دون أن يكرّر نفسه ويجتر موهبته . من «العاصفة» إلى «غادة» والقائمة تطول وصولا إلى «المايسترو» في رمضان 2019 ، راكم فتحي الهداوي النجاحات وإشادة الجمهور بحسن الأداء حتى وإن ظهر في غير أدوار البطولة. فهل سيكون أداؤه على رأس وزارة الشؤون الثقافية محل تقدير ورضاء؟
لئن كان لفتحي الهداوي باع وذراع في المسرح والدراما والسينما... فإنه يبدو أن فترة إدارته للمركز الثقافي الدولي بالحمامات بما في ذلك مهرجان الحمامات الدولي 7 من أكتوبر 2011 إلى 31 مارس 2014 لم تحظ بالتأييد والإدراج في خانة «الحسنات» مما جعل هذه التجربة الإدارية التي وصفت بـ»الفاشلة» استدلالا لدى البعض للحط من حظوظ هذا الفنان للنجاح في منصب وزير للشؤون الثقافية ! وقد تؤكد الأيام القادمة هذه النظرية، كما قد تثبت العكس!
أولويات على طاولة الوزير القادم
25 وزيرا تداولوا على تسيير وزارة الشؤون الثقافية ، منهم من ترك بصمة لا تمحى وأثرا خالدا على غرار أول وزير للثقافة الشاذلي القليبي والذي أدار الوزارة في ثلاث فترات منفصلة و البشير بن سلامة الذي اقترن اسمه بالتأسيس والإضافة... ومنهم من امتلك رغبة حادة في الإصلاح لكنه مرّ سريعا لسبب أو لآخر. ولكن 3 نساء فقط حظين بمنصب وزيرة للثقافة دون أن يمنحهن الحظ وقتا كافيا لإثبات الذات فرحلن سريعا رغم ما يحملن من آمال وأحلام. وهن مفيدة التلاتلي ولطيفة الأخضر وسنيا مبارك.
ويحمل الوزير المقترح فتحي الهداوي رقم 26 في تعداد الوزراء المتعاقبين على كرسي وزارة الشؤون الثقافية ليخلف محمد زين العابدين الذي زوال هذه المهمة لأكثر من ثلاث سنوات اجتهد فيها في محاولة التأسيس لتظاهرات ومهرجانات جديدة في شتى الفنون وتعميم مراكز الفنون الدرامية والركحية على كامل الولايات وبعث ساحات الفنون ومدن الحضارات والآداب والكتاب... وكان مسك الختام في هذه المسيرة فيض من الدروع والتكريمات عن استحقاق ودون موجب حق على حد سواء مما أثار السخرية والتهكم. فأصاب في مواضع وأخطأ في وقائع أخرى.
على كل تميّزت فترة محمد زين العابدين بالحركية والتنقلات والاجتماعات... التي قد تكون خيار الوزير القادم كما قد لا تكون. والأكيد أنه على طاولة وزير الشؤون الثقافية المقبل ملفات في طور الانتظار وأولويات تستعجل النظر لعل أهمها إصدار قانون الفنان والمهن الفنية ومراجعة سياسات الدعم وتطبيق حقوق التأليف والحقوق المجاورة... دون أن ننسى معضلة قطاع التراث في تونس التي تستوجب تدخلا عاجلا على مستوى التشريعات والموارد البشرية والمالية واستراتيجيات العمل.
وبغض النظر عن نيل حكومة الجملي للثقة من عدمها، وسواء جلس فتحي الهداوي على كرسي الوزارة أو لم يجلس، فإن وزير الثقافة القادم مطالب بالقطع مع ثقافة الإقصاء وسياسة المحاباة والصداقات ومنح الفرصة للجيل الشاب للظهور والبروز... والأهم ضمان استقلالية الثقافة وحرية الفنان لأن العطاء الإبداعي لا ينمو إلا في بيئة متحررة من الوصاية والرقابة والقيود... والتاريخ أبدا لا يعلي إلا أسماء الكبار والأحرار.