وهي مسرحية فلسطينية سنكتشف أن الأدوار والمواقع قد تتغيّر ليبقى الأنذال أحياء في كل مكان وزمان يسلبون الضعفاء والفقراء ويستبدلون الحق بالباطل ! هي فلسطين الجرح والوشم والحق والأمل... فأن يكون المسرح الفلسطيني حاضرا على ركح المسابقة الرسمية لأيام قرطاج المسرحية ومنافسا على التانيت الذهبي للمهرجان فذلك في حد ذاته انتصار لفلسطين القابعة تحت الاحتلال والتي تقاوم كل يوم بالفن والحلم...
المسرحية كوميديا سوداء من نوع السهل الممتنع وقد نجح المخرج فراس أبو صباح في اقتباسها عن نص مسرحي للكاتب العراقي علي عبد النبي الزيدي وتطعيمها بروح فلسطينية خالصة في «كلب الست». وقد لعب أدوار هذا العرض الذي احتضنته قاعة الفن الرابع بالعاصمة كل من خالد المصو وسليم النبالي وهديل تكروري.
عرض طريف ... موغل في الترميز
في بيت بسيط خال من كل الجماليات والكماليات بل وحتى من الضروريات، كان الجد والحفيد يلاحقان آثار فئران بالمطبخ عبثت بالمؤونة الزهيدة فيدسان لها السم حتى يتخلصا من عبثها وأثرها ... فإذا بطارق للباب يقتحم عزلتهما ويفزع وحدتهما...من الطارق يا ترى؟ كانت الضيفة امرأة جميلة وفاتنة، تلبس الابتسامة قناعا واللطف رداء حتى تتسلل شيئا فشيئا من الباب إلى عقر الدار وتمرّ من العتبة إلى صدر البيت... فتصبح السيدة الآمرة بعد أن كانت الضيفة الودودة.
لم تأت هذه الضيفة فارغة اليدين وخالية الوفاض بل جاءت حاملة ما لذ وطاب من طعام ومحملة بصناديق من الزاد حتى تسهل عليها المهمة بعد أن قدمت نفسها بوصفها طاهية أرسلها «الأسياد» في مهمة إنسانية نبيلة صحبة كلبها الوفي، الأمين.
ويحدث ما لم يكن في الحسبان، إذ يموت الكلب بعد أن لعق سم الفئران المدسوس في المطبخ. وهكذا يجد الحفيد والجد نفسيهما في مواجهة محاكمة جائرة لا ذنب لهما فيها سوى أن الكلب مات في بيتهما، فإما السجن وإما الصوم لسبعة أيام!
طبعا، كان القبول بالحكم الثاني لأنه أقل هوانا وعذابا ... إلا أن الطاهية صاحبة الكلب لم تكتف بعقاب الصوم للجد والحفيد بل اتبعت سياسة المراحل التصاعدية من التجويع إلى الإذلال لى حظر الخروج والتجوّل إلى منع الاجتماع بين الجد والحفيد. فكأننا أمام تطورات القضية الفلسطينة عبر ساعة الزمن وفصول التاريخ إلى حد أن يصل الأمر في نهاية المسرحية إلى طرد الطاهية المحتلة من الباب فإذا بها تعود من الشباك!
سينوغرافيا بسيطة ولكنها جميلة
في «كلب الست» لم يكن الجد والحفيد وحدهما يتضوّران جوعا وبيتهما خال من الكساء والأثاث، بل كان الركح أيضا فقيرا من بهرج السينوغرافيا والفضاء المسرحي متقشفا في ديكوره وأدواته ... مقابل ثراء الحوار بين الشخصيات وبراعتها في تقمص أدوارها بمنتهى الفن والشغف. فإذا بالمتفرج أمام دراما سوداء تبكي بعيون من وجع وألم وهي ضاحكة الثغر ومبتسمة الفم!
وقد كان اشتغال المخرج ذكيا وطريفا وهو يسلط الإضاءة بين فاصل كل مشهد ومشهد على صورة الكلب المعلقة على جدار البيت لتستفز فينا مشاعر الضيق والحنق أمام النظرات الحادة لهذا الكلب الذي يشبه الذئب خبثا ودهاء.
ليس لنا سوى الله وسقف البيت» عبارات كثيرا ما تتردد في المسرحية وينشر صداها في أنحاء الركح وزوايا قاعة العرض لتذكر لعل الذكرى تنفع العرب بأن هذا ما بقي لفسلطين المغتصبة فحتى البيت مهدد بالافتكاك والهدم وأصحاب البيت عرضة للتهجير والتشريد!
إيماء ذكي وتلميح دون تصريح
على ركح «كلب الست» إيماء ذكي للقضية الفلسطينية، التفاصيل والشتات والانقسام ونقض الاتفاقيات... دون ذكر فلسطين أو حتى الاحتلال الصهيوني صراحة. فقد نرى الكيان المغتصب في صورة المرأة الطاهية وقد نلتمس الاستسلام حينا والمقاومة حينا في ردود فعل الحفيد والجد.
على مستوى الأداء، برعت الشخصيات الثلاث التي تقمصها كل من خالد المصو وسليم النبالي وهديل تكروري في تقمص الأدوار والمواقع إلى حد التماهي والأداء الصادق الذي صفق له الجمهور طويلا، طويلا.
كتــــب الكاتب العراقي علي عبد النبي الزيدي في نهاية نصه المسرحي «كوميديا الأيام السبعة» إنّ «هذه المسرحية لا تنتهي إلا بعد أن ينقرض جنس الكلاب»، ولعله يقصد بذلك الإنسان الذي تطبّع بسوء طبع الكلاب من غدر وخيانة وعض اليد التي امتدت بالخير... هذا الإنسان الذي يحمل طباع الكلب مازال يعيش بيننا بألف وجه وقناع وفي كل يوم وعام ... ولهذا فإن «كلب الست» وإن مات على الركح فإنه لن يموت رمزا واستعارة ومجازا.