من الشموخ والكبرياء وتلوّح لنا بيد من الوّد والحب من بين صفحات موسوعة «مدينة تونس حاضرة عربية ومتوسطة». وقد أصدرت وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية هذا الكتاب الموسوعي في نسختين باللغتين العربية والفرنسية في انتظار الترجمة إلى اللسان الأنقليزي. وفي رحاب متحف باردو، كان الاحتفاء بهذا الإصدار الثمين والمشرف الذي يهدينا جولة شيّقة ومشوّقة عبر فصول التاريخ ونفائس المعمار وأسرار الحرف والفنون وسير العظماء والنساء الخالدات...
«مدينة تونس: حاضرة عربية متوسطية» كتاب موسوعي ضخم الحجم وفاخر الورق وجميل الصور وثري المحتوى... تناثر حبره على امتداد أكثر من 500 صفحة من الحجم الكبير. وقد قام بتصميم هذا الكتاب، المرجع وإنجازه عبد العزيز الدولاتلي بدعم من رئيس المجمع المتوسطي بباريس ميشال تيراس ومساهمة فوزي محفوظ وسلوى درغوث. وقد تولى نقلة إلى اللغة العربية عبد الحفيظ الهرقام بمعيّة ناصر البقلوطي.
تونس أجمل في عيون 32 باحثا ومؤرخا
من يجود عليه الحظ الجميل بتصفح الكتاب الموسوعي «مدينة تونس: حاضرة عربية متوسطية» قد يشعر بالغبطة وقد امتلك تاريخ تونس بين يديه ولكنه أيضا قد يؤخذ بمشاعر الرهبة أمام هذا الكنز الثمين ولسان حاله يقول: من أين سأبدأ وكل الفصول مغرية بالإبحار وكل المقالات فاتنة العناوين والمضامين؟!
هم 32 مختصا في شتى المجالات والمعارف من تاريخ وعمارة ومعمار وفنون وآداب وصناعات وحرف وعادات وتقاليد... جمعهم عشق تونس ليجتمعوا على تحبير الصفحات القيّمة لكتاب «مدينة تونس: حاضرة عربية متوسطية». ولئن كانت هذه الموسوعة متحفا متنقلا عن تونس قديما وحديثا في كل وجوهها وأبعادها
وزواياها... فإنها استدلت على معطياتها ومعلوماتها بشواهد جذابة ومدروسة من صور بالأبيض والأسود وأخرى حديثة بالألوان، خرائط وفسيفساء ولوحات تشكيلية... فإذا بنا في النهاية أمام دفتي كتاب شامل وباذخ الوصف والحرف، متناسق الشكل والمضمون، متنوّع الاهتمامات والإضاءات..
عبثا نحاول تصيّد ثغرات في موسوعة «مدينة تونس: حاضرة عربية متوسطية» والحال أن هذا الكتاب المرجعي لم يكتف ببسط عمق المدينة العتيقة حضاريا ومعماريا بل عرّج على ميزات جارتها المدينة الأوروبية ، ولم يقتصر هذا الأثر الكبير الحجم والقيمة على تثمين التراث المادي بل غاص في ثنايا التراث اللامادي مادحا وممجدا، ولم يبحث هذا المؤلف الجماعي عن ملامح تونس الحضارة والأصالة في المراجع التاريخية فحسب بل اقتفى أثرها في أدب الرحلة وإبداعات الفنون...
تونس عبر فصول التاريخ في كتاب واحد
إذا كنّا نعشق تونس من شغاف القلب ونعليها راية وهوية، فلاشك أن كتاب «مدينة تونس حاضرة عربية ومتوسطة» سيوّرطنا في حبها أكثر وهو الذي يحرّضنا على السباحة في لجج الهوى افتتانا بثراء هذا الوطن تاريخا ومعمارا وفكرا وفنا... ولئن يصعب تطويق هذه الموسوعة الضخمة في كلمات معدودة، فيمكن ذكر محاورها الرئيسية كانت عناوينها كما يلي: «المعطى الجغرافي، واستكشاف المركز التاريخي: المدينة الوسطية والمدينة الأوروبية، وبزوغ عاصمة: التاريخ والنمو الحضري، ومجتمع تونس من الأصول إلى القرن التاسع عشر، والنظام التربوي والصوفية وطرقها، الفكر السياسي،الحياة الأدبية، الفن المعماري: المعالم الكبرى والأساليب المعمارية، والعمارة المنزلية، والمدينة الأوروبية، والرقي الحضاري: الشواهد الفنية.
وفي تقديم مشوّق لكتاب «مدينة تونس حاضرة عربية ومتوسطة» يقول مصمّمه ومنجزه عبد العزيز الدولاتي: «يجد القارئ أو المتصفح لهذا الكتاب ما يشفي غليله،وهو الذي يتناول مختلف الحقب التاريخية التي عرفتها المدينة منذ القدم ويبرز مميزات الهندسة المعمارية بصنفيها العربي الإسلامي والأوروبي المتوسطي. كما يسلط أضواء كاشفة على رموزها وأعلامها في مختلف المجالات بعد أن ذاع سيط جامعها الأعظم، جامع الزيتونة المعمور، منذ القرون الأولى للإسلام كمعلم ديني وكمؤسسة تعليمية نبغ في رحابها فطاحل في العلوم الدينية والدنيوية مثل علي ابن زياد أستاذ الإمام سحنون والإمام ابن عرفة والمؤرخ ابن خلدون. مثلما سطع في سمائها نجم نساء شهيرات على غرار الأميرة عطف زوجة أبي زكرياء مؤسس الدولة الحفصية وأم أبي عبد الله المستنصر بالله أوّل أمير حفصي يتلقّب بالخلافة ثم السيدة عائشة المنوبية صاحبة الكرامة وأخيرا وليس آخرا المحسنة الفاضلة عزيزة عثمانة... وقد يعجب القارئ من التباين الصريح شكلا ومضمونا بين الأحياء القديمة التي كانت تحتضنها الأسوار والأحياء الجديدة ذات الطابع الأوروبي المتوسطي الممتدة بين باب بحر والبحيرة.... وهو ما يعبّر عن مدى أصالة هذه المدينة ذات الجذور المزدوجة العربية والمتوسطية».
قريبا، تسلم تونس مشعل عاصمة الثقافة الإسلامية إلى عاصمة أخرى، وبعد أن تلملم هذه التظاهرة السنوية أوراقها ومحطاتها واحتفالاتها وترحل سيبقى لنا ولأجيال الغد ولكل من يطرق أبواب تونس حاضرا ومستقبلا كنزا ثمينا وثروة لا تنضب ودررا مكنونة في صفحات موسوعة «مدينة تونس حاضرة عربية ومتوسطة».
المدير العام لوكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية مهدي النجار:
في الموسوعة روائع خالدة لن تمحى من الذاكرة
منذ 30 عاما، بذلت وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية الوقت والجهد لتثمين التراث التونسي توثيقا وتعريفا وتسويقا... وفي هذا السياق يأتي إصدارها لكتاب «مدينة تونس حاضرة عربية ومتوسطة» للمساهمة في فعاليات تونس عاصمة الثقافة الإسلامية لسنة 2019 واحتفالا بمرور 40 سنة على تسجيل مدينة تونس في قائمة التراث العالمي لليونسكو. وفي تقديمه لهذا الأثر الموسوعي، يقول المدير العام لوكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية مهدي النجار: «إن المتصفح لهذا الكتاب الجماعي سيعثر على روائع خالدة لن تمحى من ذاكرته...ذلك أن مدينة تونس لازالت تحتفظ بما يناهز 700 معلم تاريخي في إطار سياق حضري أصيل وشديد التنوع... ونحن نعمل بكل ما أوتينا من إمكانات على حمايتها وإحيائها لتبقى تونس مهد الحضارات ومنارة المعارف والمهارات وحاضرة عربية متوسطية».