عن قصر الحمراء أنشد نزار القباني « في مدخل الحمراء كان لقاؤنا... ما طيب اللقيا بلا ميعاد»، وعن إشبيلية الفن غنّت فتحية خيري: «محلى ليالي شبيلية وصوت القيتارة والوتر»، وعند سقوط غرناطة صرخت الأم المفجوعة في وجه ابنها الملك المهزوم: «ابك مِثل النساء ملكا مضاعا لم تُحافظ عليه مِثل الرِّجال»... وهاهي المسرحية الغنائية «ملوك الطوائف» ترثي على ركح مهرجان قرطاج الدولي سقوط الأندلس وتبكي حال العرب الذين لم يتعظوا من التاريخ حتى ضاعت العبرة على وجوه غمرتها عبرات الندم على مجد ضاع ....
من لبنان إلى قرطاج، كان الوصل فنيا والمصافحة موسيقية في تحية من أروع حفلات مهرجان قرطاج الدولي في دورته 55 حيث صافحت المسرحية الغنائية «ملوك الطوائف» في نسختها الجديدة من إخراج مروان رحباني وبطولة هبة طوجي وغسان صليبا الجمهور الغفير على امتداد سهرتين متتاليين. وقد نجح العرض في شد الانتباه على امتداد حوالي 3 ساعات من الزمن.
الشعر روح الأندلس
كما اشتهرت الأندلس بقصورها الفاخرة وحدائقها الغنّاء، فقد ذاع كالطيب صيت شعرها الرقيق رقة طبيعتها الساحرة والفاتنة والعذب كخرير مياه أنهارها ... فلم يكن من الغريب أن تكون «افتتاحية» مسرحية «ملوك الطوائف» شعرية وشاعرية بتوقيع الحب وإمضاء العاطفة الجياشة التي جمعت في لحظة صدفة جميلة جمعت بين أمير إشبيلية «المعتمد بن عبّاد» و»اعتماد الرميكية» تلك الجارية التي تقوم بغسل الثياب بجانب مجرى نهر رقراق. ولم يكن الوجه الصبوح والقوام الرشيق هما فقط من جلبا نظر الأمير إلى الجارية بل جذبه ذكاؤها وإجادتها لفن نظم الشعر وهي التي أكملت عجز بيته: «صنع الريح من ماء الزَّرد» ، فقالت: «أيُّ درعٍ لقتال لو جمد». فاشترطت أن تكون في قصر الأمير زوجة وأميرة ولا عشيقة أو خليلة.
وفي مراوحات غنائية بين العاشقين ومسامرات شعرية، يذوب الإحساس أمام سلطان الحب وسلطة الشعر.
كما يسلط عرض «ملوك الطوائف» الأضواء على تأثير المرأة عبر التاريخ في مصير الإمبراطوريات والدول ، فإنه يأخذنا في زيارة إلى مخادع الأمراء والوزراء حيث تكثر الدسائس وتعشش المكائد ويلهو السلطان في حضرة الجواري و كؤوس الراح... بينما يجوع الشعب ويموت ثمنا لبذخ الملوك.
ملوك الطوائف ... هل هم عرب اليوم؟
وبعد أن أوقعنا مخرج «ملوك الطوائف» في أسر عوالم الحب والشعر بين «ابن عبّاد» و«اعتماد» التي جعلتنا نستذكر عنوة عنا قصة الحب الشهيرة بين ابن زيدون ووّلادة وقصائدهما المرهفة، الممزوجة بآهات الأرواح عند الوداع والفراق، أيقظنا شيئا فشيئا على عقدة الأحداث و جرح خاصرة العروبة.
فإذا نحن في حضرة ملوك الطوائف الذين استأثر كل منهم بحكم دويلة صغيرة قامت على أنقاض الدولة الأموية في الأندلس.
وفي خطاب ذكي ومحاكاة نبيهة، يجد المتفرج نفسه متوّرطا دون حول أو قوّة منه في مقارنة أحوال الأمس بأوضاع اليوم، فكأننا باجتماعات الملوك الطوائف الذين يحكمون 22 دولة هي صورة عن لقاءات القمة العربية اليوم حيث يجلس العرب إلى نفس الطاولة ليتفقوا على أن لا يتفقوا ويكتفوا بإصدار بيانات التنديد والاستنكار. وفي المقابل يلهثون في سرّهم لنيل رضا «ألفونسو السادس»، ملك قشتالة بما هو رمز العتاد والجيوش سابقا وموقع القوة العظمى اليوم في زمننا الراهن.
وبعد أن توسعت مطامع ألفونسو السادس الاستعمارية في الممالك الأندلسية ، استنجد المعتمد بن عباد بيوسف بن تاشفين أمير المرابطين في المغرب. لكن هذا المنجد والمنقد ما لبث أن انقلب على المستنجد به، فانتهى «بن عباد» أسيرا مقيدا بالأغلال موسوما بالذل.
وبين تقاطعات الماضي البعيد بالأمس القريب، تحذرنا مسرحية «ملوك الطوائف» بأن الملوك يتكررون، يعودون في كل عصر وحين، ولما يذهب ملك يأتي ملك آخر ولكن الوطن إن ضاع لا يعود !
نشوة جمالية... متعة مشهدية
عادت مسرحية «ملوك الطوائف» على الأعقاب وعكس عقارب الساعة، لتتوّغل في مسالك التاريخ وتقف عند عتبة الأندلس زمن اقتسام الممالك في عصر ملوك الطوائف. لكن هذا الخيار لا يعني وقوعها في شراك التأريخ والتوثيق وإعادة القصص والعبر بل كان السند التاريخي مطية إبداعية نحو سفر عشق مجنون تهدهده الأغنيات وتراقصه النغمات الراقصة... فإذا بالجمهور أمام لوحة فنية متكاملة يعاضد فيه المبنى المعنى، ويمازح فيها التاريخي السياسي، ويلتقي فيها المسرح والموسيقى والطرب والشعر والرقص على ركح واحد في توليفة عجيبة ومبهرة لا يملك مفتاح ألغازها وسر تركيبتها العجيبة سوى «الرحابنة» الذين جلسوا على عرش المسرح الغنائي منذ زمن بعيد بلا منازع.
على ركح «ملوك الطوائف» تختال الأزياء في كبرياء وتتبادل الأضواء والألوان الأدوار في رشاقة الفراشة بمنتهى الفن، فلا تملك الحواس سوى أن تستسلم عن طواعية إلى إيحاء رؤية سينوغرافية خصبة التجليات والاحتمالات ترتحل بنا إلى خارج المنطق والمعقول لترمينا بكل حب وسخاء في عالم من الجمال والخيال وتعلقنا في سماء يسامر فيها القمر أحفاد المجد الغابر ويرنو إلى بزوغ شمس العرب، لا عرب التاريخ بل عرب المستقبل.