«رسائل الحرية» بقلم الكاتب عز الدين المدني ومشاهد المخرج حافظ خليفة على ركح افتتاح مهرجان الحمامات الدولي. أمام مسرحية راقية ورائقة ومشهدية جميلة ومؤثرة وسينوغرافيا مبتكرة ومبهرة ... صفق الجمهور طويلا، طويلا لبراعة عرض مسرحي في صنع الدهشة و قدح التفكير واستدعاء العقل، ولاشيء غير العقل.
على إيقاع طرب صوت الفنان الكبير لطفي بوشناق، رفعت ستارة انطلاق «رسائل الحرية» التي يلعب أدوارها ثلة من الممثلين على غرار البشير الغرياني والبشير الصالحي ونورالدين العياري وعبد الرحمان محمود وفتحي الذهيبي و حافظ خليفة وشهاب شبيل ... وقد نال هذا العرض دعما من وزارة الشؤون الثقافية.
«المهدي المنتظر»... ودجل نبوءة السلطة
«التاريخ فن.. يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم وحضاراتهم والأنبياء في سيرهم والملوك في دولهم وسيرتهم حتى تتم فائدة الاقتداء في أحوال الدين والدنيا.» هكذا أخبرنا ابن خلدون لكن يبدو أن التاريخ يكرّر نفسه في كل مرة حيث يولد الطغاة في كل زمان وتبقى الحرية مطلب كل الشعوب على مرّ العصور.
وقد عادت مسرحية «رسائل الحرية» إلى التاريخ لتستلهم من أحداثه وصراعاته ومجازره فصولا تتقاطع مع الراهن وتتطابق مع واقع تونس اليوم وكل الوطن العربي المعتل بطوائفه وأحزابه، والسقيم بأوهامه واعتقاده في بياض قلب ويد السلطان بأمره والحاكم في أرضه...
تنطلق المسرحية من حدث انتشار دعوة أبي عبد الله الشيعي بإفريقية وقيامه بثورة ضد الأغالبة بدعوى إسقاط حكم الإجحاف والإضطهاد ... فتزغرد النساء عند ظهور المهدي المنتظر الذي يخلص الناس من الفقر والجوع والضيم... ولكن هذا المهدي الدّجال لم يكن سوى سفاح في ثوب رجل دين و جلاد يحمل في يده مسبحة بدل السيف.
ولا تلبث البلاد أن تغرق في بحر الدم وأن تطلق النساء عقيرتهن بالعويل والنحيب على استبدال حكم بظلم يفوقه شرورا وتقتيلا... ليصرخ صوت «رسائل الحرية» في الحاضر والآتي محذرا ومنبها :»من يحكمكم دجال، اعلموا أن المهدي المنتظر حلم، أمل.. أنتم المهدي المنتظر ».
«رسائل الحرية»... موعظة الإنسانية
اختارت مسرحية «رسائل الحرية» أن تنتعل حذاء اللغة العربية في صولاتها وجولاتها التي شارفت الساعتين من الزمن على ركح افتتاح مهرجان الحمامات الدولي. جاءت فصحى صاحب النص عز الدين المدني جذابة ومثيرة وحبلى بالرموز ومثقلة بالدلالات ... فكانت رحلة عذبة في ملكوت لغة الضاد أعادتنا إلى الزمن الجميل على ركح «أب الفنون». ولئن اعتمد المخرج على نص متين البناء وعذب المفردات من تحبير عز الدين المدني الذي يعد أحد أبرز رواد الكتابة المسرحية العربية فإنه تجنّب الإطناب في تمرير الحوارات الطويلة بين الشخصيات. وأثرى عرضه بفواصل شيّقة ومؤثرة في شكل «مونولوغ» اعتمادا على نصوص أخرى لعز الدين المدني تدور دائما وأبدا في فلك ثنائيات الإنسانية من عبودية وحرية ، ظلم وعدل، ظلام ونور...
الإضاءة الرقمية... متعة بصرية
حمام وغمام، بحر وصحراء، جدب وخصب... كلها فضاءات وأمكنة ودلالات أصبحت ممكنة التحقق على الركح في لمح البصر بفضل تقنيات الإضاءة الرقمية التي أبهرت الجمهور وأهدته متعة بصرية يشاهدها لأول مرة في تونس. وجاءت هذه التقنية الجديدة والبديلة في عالم المسرح بإمضاء الدكتور عماد هادي الخفاجي و المياحي محمد مهدي من العراق.
موسيقا، كانت «رسائل الحرية» رحلة من المتعة والمؤانسة من إبداع رضا بن منصور الذي ضرب على وتر الأحزان حينا وعزف نغم الأشجان أحيانا أخرى.
وقد كان التوفيق حليف المخرج حافظ خليفة في توظيف سينوغرافيا ذات جمالية مربكة ومحيّرة ومفاجئة في استغلال كل زوايا المسرح الفسيح لمهرجان الحمامات واستغلال أركاح أخرى غير متوقعة على مستوى أفقي وعمودي ... فترتسم لنا مشاهد معلقة في الأعالي و تتجسد لنا مشاهد أخرى على هوامش المسرح الرئيس.
لقد ارتقت «رسائل الحرية» في مواضع عديدة إلى مرتبة العبرة والموعظة وشعلة نور الهدى لإتباع دين العقل وديانة الإنسانية من أجل عالم مسالم ومتسامح ينبذ الظلام والغربان ويصافح الشمس والحمام.
المخرج حافظ خليفة لـ«المغرب»:
الإسلام السياسي لعنة كل الأزمان
لم يكتف المخرج حافظ خليفة بارتداء قبعة المخرج بل ظهر في دور المهدي المنتظر على الركح، وفي هذا السياق صرح لـ «المغرب» بالقول: «يحتاج المسرح أن يبقى المخرج عينا خارجية لكن دور المهدي المنتظر المعقد والذي يحتاج إلى ثقافة عميقة بالفكر الشيعي جعلني ألبس الدور كما فعلت سابقا مع دور «إبليس» في مسرحيتي «طواسين». لقد جعلنا من التاريخ منطلقا ومثالا بغض النظر عن الطوائف والملل والنحل لكشف خبث السياسي المتخفي بالدين في الضحك على الذقون. فمتى حكم الإسلام السياسي حلّ الخراب في كل البلدان على مر الأزمان».
عز الدين المدني لـ «المغرب»:
«نصوصي حيّة ... ولا أكتب الجثث الهامدة»
كانت الهتافات وحرارة التحايا رد جميل جميل من الجمهور إلى صاحب نص «رسائل الحرية» عز الدين المدني الذي صرح لـ«المغرب» بالقول: «هذا العرض هو اقتراح للتفكير، لإعادة النظر، لمراجعة الثوابت الدينية والسياسية حتى يكون المستقبل جديرا بالعمق التاريخي والحضاري والثقافي لتونس العريقة والثرية التي كانت إمبراطورية كبرى في عهد الدولة الحفصية ... من المؤلم اليوم أن يسير الكثير وراء القطيع بلا عقل، بلا فكر!».
ولئن كان نص المسرحية يعود زمن كتابته إلى السبعينيات، فقد أكد المدني أن «النصوص الحية لا تموت وأنه لا يكتب إلا النصوص الحية ولا يكتب الجثث الهامدة»، مضيفا أنه يستعد إلى إخراج نص له مسرحيا عن تونس التاريخ ورمزية أبوابها السبعة . أفليس المسرح بابا من أبواب الحياة؟