المقام الأول: الاهتداء إلى الشيء المقصود نواله بالعمل به، وهو مقام العمل، فالعالمِ بالشيء يهتدي إلى طرقه، فيبلغ المقصود بيسر، وفي قرب، ويعلم ما هو من العمل أولى بالإقبال عنه، وغير العالِم به يضل مسالكه، ويضيع زمانه في طلبه، فإما أن يخيب في سعيه، وإما أن يناله بعد أن تتقاذفه المصائب، وتنتابه النوائب، وتختلط عليه الحقائق، فربما يتوهم أنه بلغ
المقصود، حتى إذا انتبه وجد نفسه في غير مراده، ومثله قوله تعالى»والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا» النور:39 من أجل هذا شاع تشبيه العلم بالنور، والجهل بالظلمة.
المقام الثاني: ناشئ عن الأول، وهو مقام السلام من نوائب الخطأ ومزلات المذلات؛ فالعالِم يعصمه علمه من ذلك، والجاهل يريد السلامة، فيقع في الهلكة، فإن الخطأ قد يوقع في الهلاك من حيث طلب الفوز، ومثله قوله تعالى:»فما ربحت تجارتهم»البقرة:16 إذ مثَّلهم بالتاجر، خرج يطلب فوائد الربح من تجارته، فرجع بالخسران؛ ولذلك يشبه سعي الجاهل بخبط العشواء؛ ولذلك لم يزل أهل النصح يسهلون لطلبة العلم الوسائل التي تقيهم الوقوع فيما لا طائل تحته من أعمالهم.
المقام الثالث: مقام أنس الانكشاف، فالعالم تتميز عنده المنافع والمضار، وتنكشف له الحقائق، فيكون مأنوساً بها، واثقاً بصحة إدراكه، وكلما انكشفت له حقيقة كان كمن لقي أنيساً، بخلاف غير العالم بالأشياء، فإنه في حيرة من أمره حين تختلط عليه المتشابهات، فلا يدري ماذا يأخذ وماذا يدع، فإن اجتهد لنفسه خشي الزلل، وإن قلد خشي زلل مقلده، وهذا المعنى يدخل تحت قوله تعالى: «كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا»البقرة:20.
المقام الرابع: مقام الغنى عن الناس بمقدار العلم والمعلومات، فكلما ازداد علم العالِم قوي غناه عن الناس في دينه ودنياه.
المقام الخامس: صدور الآثار النافعة في مدى العمر مما يكسب ثناء الناس في العاجل وثواب الله في الآجل؛ فإن العالِم مصدر الإرشاد، والعلم دليل على الخير، وقائد إليه، قال الله تعالى:»إنما يخشى الله من عباده العلماء»فاطر:28. والعلم على مزاولته ثواب جزيل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده» رواه مسلم. وعلى نشره وتعليمه مثل ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم»إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم بثه في صدور الرجال، وولد صالح يدعو له بخير» رواه الترمذي والنسائي.
فهذا التفاوت بين العالم والجاهل في الصور المذكورة مشمول لنفي الاستواء الذي في قوله تعالى»قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون» وتتشعب من هذه المقامات فروع جمة، وهي على كثرتها تنضوي تحت معنى هذه الآية».