والحكايات تخترق القضبان وتمزّق حجب الصمت لتصوّر لنا عذابات طفولة أودت بها الأقدار إلى مراكز الأطفال الجانحين. في هذا العالم المنسي في أسراره والخفي في تجاوزاته، تتسلل كاميرا المخرج الأسعد الوسلاتي لتفضح المستور وتعرّي المسكوت عنه... فإذا نحن أمام دراما تحمل الرسالة وتتبنى القضية، دراما تحمل مشعل التأثير من أجل التغيير.
• كيف اختمرت في ذهنك فكرة تصوير مسلسل «المايسترو» ولماذا اخترت أن يكون عالم «الإصلاحية» محور الاهتمام والكاميرا؟
في سنة 2016 كانت تخامرني فكرة الاشتغال على عمل درامي يتناول قضية أطفال الشوارع في علاقة ما بموسيقى الشارع... لم تكن وقتها التفاصيل جليّة الوضوح في ذهني حتى كان الفصل في بعد اللقاء بصديقي الموسيقي رياض الفهري. وهو الذي حدثني عن تجربته الخاصة كمشرف على ناد موسيقي في إصلاحيات تونس على امتداد سنوات امتدت من عام 1994 إلى حدود 1999 بكامل ربوع الجمهورية. وقد أخرج هذا الفنان فتيات وفتيان الإصلاحيات من عزلة السجون إلى ركح الفن ليساهموا في توقيع عرض موسيقي مختلف ومؤثر أحرز على الإعجاب وواكبته منظمات الطفولة العالمية على غرار «اليونيسيف» ...
أمام هذه التجربة الثرية والإنسانية للفنان رياض الفهري، حسمت أمري وعقدت العزم على أن هذه القصة ستكون منطلق مسلسل «المايسترو».
لم أكتف بحكايات الفنان رياض الفهري عن عالم الأطفال وراء القضبان، بل عقدت لقاءات مع أكثر من 150 طفلة وطفل فيهم من عاش فعلا تجربة الإصلاحية وفيهم من عانى من ويلات الشوارع... واستمعت إلى قصصهم التي رووها بكل صدق وبراءة وبكثير من العفوية والتلقائية وكأنني أصوّر فيلما وثائقيا طيلة شهرين وحتى قبل كتابة سيناريو المسلسل.
كان يلازمني في كل فصول الإعداد للمسلسل سؤال مؤرق وموجع : لماذا قُذف بهؤلاء الأطفال إلى مراكز الإصلاح كمجرمين بدل أن يكونوا في الخارج يلعبون؟!
• إلى أي مدى كان «المايسترو» وفيّا لحقيقة عالم مراكز الأطفال الجانحين وصادقا في نقل معاناة طفولة وجدت نفسها بين القضبان ؟
في «المايسترو» انطلقنا من شهادات حية وتجارب حقيقية لننقل جزءا كبيرا من الواقع. هذا الواقع الذي قد يكون صادما ومقلقا ومربكا لكنه يستفزنا ويحرضنا على فتح أبواب الحوار والنقاش عن مدى نجاح العائلة والمدرسة في حماية الأطفال من براثن الانحراف. وأيضا لنوّجه السؤال إلى المسؤولين على الإصلاحيات عن سبب فشلهم في تأهيل الجانحين وإعدادهم للاندماج في المجتمع كشخصيات سوية... وحين تفيد الإحصائيات بأن نسبة مهمة من الأطفال تخرج ثم تعود للإصلاحية فمعناه أن مراكز التأهيل والإصلاح فشلت في أداء المهمة !
• هل من صدى لمسلسل «المايسترو» لدى السلطات الأمنية والمسؤولين عن مراكز إصلاح الأطفال الجانحين ؟
لا بد من التنويه بتعاون إدارة السجون والإصلاح معنا منذ البداية. وقد مكنتنا من التراخيص وفرص زيارة مراكز إصلاح الأطفال الجانحين...
وطبعا كزائر خارجي لم ألاحظ سوى الصورة الإيجابية عن واقع الإصلاحيات في تونس، ولكن لما عدت إلى شهادات الأطفال الموّثقة عندي وجدت نوعا من التناقض بين ما سمعته على لسان جانحين عاشوا التجربة المرّة وبين ما أراني إياه المسؤولون عن هذه المراكز !
لم يكن هاجسي عند تصوير المسلسل أن أستفز السلطات ورجال الأمن عموما بقدر ما كان كل همي أن أكون صادقا في نقل الرسالة ووفيا لحكايات أطفال مرّوا بهذه التجربة القاسية حتى لا تتكرر المآسي مع أطفال لازالوا هناك وللأسف مع أطفال آخرين قد تلقي بهم الحياة في المصير ذاته.
• راهنت على العلاج بالموسيقى وعلى قدرة الفن على مداواة الجرح ورأب الصدع... هل سيكون واقع مراكز الإصلاح فعلا أجمل إن وجد فيه «المايسترو»؟
عندما قمت بزيارات ميدانية إلى مراكز الإصلاحية وجدت ورشات للنجارة والألمونيوم ... أما الأنشطة الثقافية فتأتي في مرتبة أخيرة. كذلك لم يكن دور الإخصائي النفسي التي يفرض القانون وجوده في مراكز الإصلاح مُفعّلا على أرض الواقع. هناك لغة العصا تسبق التأطير النفسي والمراهنة على الفن عموما كعلاج وترفيه وتثقيف.
يأتي دور الدراما لطرح السؤال ورّج السواكن ولفت النظر إلى أن وجود الإحاطة النفسية والأنشطة الثقافية ليست ترفا أو كماليات بل هي أولوية قصوى من أجل التنشئة السليمة لجيل الغد .
• كيف كانت عملية اختيار أبطال مسلسل «المايسترو» وهل كان من السهل التعامل مع ممثلين من الأطفال في وضعية من نوع خاص حتى تنجح في اختيار أشخاص على مقاس الشخصيات؟
جئت بأغلبية الأطفال من الشوارع ليتحدثوا بلغتهم ويكشفوا معاناتهم دون تجميل أو رتوش فتركت لهم العنان ليصنعوا بأنفسهم المشهد والفرجة بعيدا عن الطريقة المعتادة في التعامل مع النص والكاميرا... فكان الصدق في الأداء والعفوية في الظهور وهو ما نفذ إلى قلب المشاهدين دون واسطة.
وأمام هؤلاء الأطفال الذين لا يملك سوادهم الأعظم تجربة في التمثيل، كان لا بد في المقابل أن تكون عملية اختيار الممثلين المحترفين مبنية على انتقاء أسماء قريبة من الشخصية بعيدا عن هاجس التسويق ومنطق النجومية...
• لكن ألاّ ينسحب منطق النجومية على الممثلة درة زروق؟
كنت أبحث عن ممثلة تؤدي دور رقية الودودة والعطوفة التي سيحبها الأطفال ولذلك سيتعاطف معها المتفرج. وذلك حتى أثبت أن الأخصائي النفسي مهم في حياتنا وخصوصا في المؤسسات التي تتعامل مع الأطفال سواء أكانت مراكز إصلاح أم مدارس...
وقد شاهدت درة زروق في واحد من أفضل الأدوار التي قدمتها في مسيرتها وهو المسلسل المصري «سجن النساء»، فاقتنعت أنها تصلح للشخصية المطلوبة في «المايسترو».
لايمكن أن ننفي وجود بعد تسويقي للعمل الدرامي ولكن ليس هو الهاجس الأساسي بالنسبة إلينا والدليل على ذلك أن المتفرجين اليوم لا يتحدثون عن بطولة أو نجومية بل عن القضية الحارقة التي يطرحها «المايسترو».
• هل كان من السهل عليك اقتحام عالم الدراما التلفزية وأنت رجل الكاميرا القادم من السينما؟
لم تكن لي تجربة في الإخراج التلفزي لهذا بقيت صورتي سينمائية بالأساس ... ولكن «المايسترو» بالنسبة لي قضية ورسالة والتزام. وكان لابد لي من تصوير عالم هذا المسلسل بطريقة خاصة ومعبّرة ومؤثرة حتى تصل الرسائل إلى من يهمّه الأمر. وتجدر الإشارة إلى أن مؤسسة التلفزة التونسية كانت سخية في توفير كل ظروف النجاح لهذا العمل الدرامي.
• ما هي المرجعيات الفنية للمخرج الأسعد الوسلاتي... ما ردك على من يقول بأن «المايسترو» استنساخ عن الفيلم الأجنبي «الجوقة»؟
من الطبيعي أن تكون لكل فنان مرجعيات ومدارس فنية يتأثر بها لكن لا يمكن أن يقلدها ... أما فيلم «الجوقة» فصدر سنة 2004 فحين أن «المايسترو» استنساخ لتجربة عاشها الفنان رياض الفهري في مراكز إصلاح الأطفال الجانحين منذ سنوات التسعينات !
• هل فتح «المايسترو» شهية المخرج السينمائي الأسعد الوسلاتي لمزيد التوغل في دروب المسلسلات التلفزية؟
طبعا أحلامي وطموحاتي في عالم الدراما التلفزية لا تزال متواصلة .. في ذهني مشروع مسلسل تاريخي . وفي سبيل مسلسل «المايسترو» تخليت هذه السنة عن إخراج مسلسل تلفزي في الجزائر.
ولا يمكنني إنكار أن «المايسترو» تجربة ثرية في حياتي، علمتني وأضافت لي الكثير كمخرج وكإنسان.