فهي شرط في بناء الحقائق الإيمانية في النفس والأسرة، وشرط في بناء الحقائق الإيمانية في المجتمع والحياة كما قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَن (يوسف:108) «وهذا يدل على أن الدعاء إِلَى اللَّه تعالى إنما يحسن ويجوز مع هذا الشرط وهو أن يكون على بصيرة مما يقول وعلى هدى ويقين، فَإن لم يكن كذلك فهو محض الغرورِ».
فالبصيرة بذلك تقتضي التنوير العقلي كما تعني الاستمداد الشرعي فقد قال ابن كثير في معنى قوله تعالى: «عَلَى بَصِيرة » هو وكل من اتبعه، يدعو إلى ما دعا إليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على بصيرة ويقين وبرهان شرعي وعقلي».
وبذا فالبصيرةُ تقتضي معرفة الأمور الشرعية المناسبة للمعالجة الواقعية على حقيقتها، وليس الأوهام والتخليطات مما تجره أفكار ذوي الأسقام، فهي اسمٌ «لِما اعتُقِدَ في القلب من الدِّين وتحَقيق الأمر» كما قال ابن زمرك:
يا ابن الذين جمـالهــم ونـوالهـم شمس الضحى والعارض المتهلل
آبـاؤك الأنصار تلك شعــارهم فـــحيـــهم آوى النـــــبي الـمرســل
فهم الألى نصروا الهدى بعزائم مصــقــولة وبصـائـــر لا تـخــذل
الحقيقة الخامسة: البصيرة تؤدي إلى اليقين المطمئن عند اتخاذ القرارات:
فقد قال الطبري في قوله تعالى: «عَلَى بَصِيرة»: أي «بذلك، ويقينِ عليمٍ مني به أنا، ويدعو إليه على بصيرة أيضًا من اتبعني وصدقني وآمن بي»، وهذا اليقين الذي كان مفتاحه البصيرة يؤدي إلى عدم الجزع من تبعات القرارات التي يتخذها المرء ما دامت البصيرة موجودة، فإذا ترتب على القرار ضياع خيرٍ مظنون فلن تلعب بصاحب البصيرة الظنون؛ فقد اتخذ القرار على بصيرةٍ، وإذا ترتب على القرار ابتلاءٌ بالمواجهة أو الفقد للأحباب فلن يستهلك الجزع الأصحاب؛ لأن القرار كان على بصيرة.
الحقيقة السادسة: وجود البصائر ليس كافياً لتحريك الضمائر:
فهل وجود البصائر كافٍ في إحداث التغيير الحسن والتحول الإيجابي الصالح؟
الجواب: لا للأسف! فالبصيرة لا تقتضي الالتزام بمقتضيات ما يراه البصر، فقد يرى المرء الشيء على حقيقته ولكنه يصر على مخالفته لتملك شهوته له، أو لانحلال عزيمته، وضعف إرادته، واتباعه لغيه، ونبذه لرشده.. فقلب الطرف لتعتبر بأقوامٍ وصفهم الله بذلك فقال عنهم وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (العنكبوت:38).. نعم كانوا مستبصرين بمعنى أنهم كانوا عارفين بواقعهم وحقائق ما حولهم ولكنهم لم يقوموا بمقتضيات ذلك.. فهم كانوا –كما يقول الزمخشري-: «عقلاء متمكنين من النظر والافتكار، ولكنهم لم يفعلوا، أو كانوا متبينين أن العذاب نازلٌ بهم لأن الله تعالى قد بين لهم على ألسنة الرسل عليهم السلام ، ولكنهم لجوا حتى هلكوا»، يا لضعف الإرادة وتملك شهوة البغي عند الناس، ووحل الكبر الذي يكسوا العباد بالأدناس.. هؤلاء كانت لهم عقول، وكانت أمامهم دلائل الهدى ولكن الشيطان استهواهم وزين لهم أعمالهم، وأتاهم من هذه الثغرة المكشوفة، وهي غرورهم بأنفسهم، وإعجابهم بما يأتونه من الأعمال، وانخداعهم بما هم فيه من قوة ومال ومتاع فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ سبيل الهدى الواحد المؤدي إلى الإيمان، وضيع عليهم الفرصة وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ.
إنها بصائر القرآن تنير الدروب لبني الإنسان، وتأخذ بيد الحيران إلى المكان الذي يجد فيه السكينة والاطمئنان، إلا أن شرطها ليجد الإنسان نورها، ويشعر بحلاوتها صدق الإيمان، وتربية النفس على قوة الإيقان.. فخذ ذلك في قوله -تعالى ذكره- هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (الجاثية:20).