في بعض شؤون الثقافة: إسلامُ النشأة المفقود ...

وحيد السعفي

ألقى الأستاذ عزيز العظمة يوم السبت 13 أفريل 2019 في مقرّ جمعية الدراسات الفكرية والاجتماعية بتونس، محاضرةً

حول كتابه الصادر باللغة الإنقليزية في كمبريدج تحت عنوان:
The Emergency of Islam in Late Antiquity : Allah and his people

وقد جعلنا هذا النصّ في الكتاب والمحاضرة إهداءً له وشُكراً:
ما إسلامُك يا عزيزُ؟ متى ظهر؟ ماذا كان قبله؟ ما الله الذي قام على أمره؟ كيف استقام الدينُ يوماً إسلاماً فدحض اللهُ الأربابَ ونَصّب نفسه ربًّا واحداً لا شريكَ له؟
سأتّبعُ خُطاك في هذا النصّ الذي جعلتُه لك إهداءً، لعلّي أهتدي بخُطاك في عالم الإسلام الشاسع، الذي تُحبَّرُ فيه الكتبُ وتُزوّرُ المقالات. سأرصد بعضَ ما ذكرتَ في المحاضرة والكتاب، وسأتساءلُ ببراءة عمّا ذكرتَ، لعلّي أفتح معك باب الحوار.
جئتنا تتحدّثُ عن إسلام قد يكونُ كان قبل الإسلام الذي نعرفُ، واخترتَ له اسماً لم تجدْ له في العربية معادلاً، فسمّيته Paléo-Islam، كان سابقاً للإسلام الذي نعرفُ، وقام على أنقاضه، وقد يكون استقلّ عنه إذا ما اشتدّ عوده. وجعلتَه كالعصر الحجري في العصور، قامتْ عليه العصور اللاحقة، وكان لازماً لقيامها، لكنّها اختلفت عنه، واستقلّت. وجعلتَه الجنينَ الذي كان في رحم الجاهلية نُطفةً فعَلقةً فمضغةً، ثمّ تطوّر في رحم الامبراطورية الأموية عَظماً وانكسى لحماً ونشأ خلقاً آخرَ وجاء إسلاماً. وسأسمّي إسلامَك الذي حدّثتنا عنه، بعد إذنك، إسلامَ النشأة المفقود، ويُمكنُ أنْ نُسمّيَه اختصاراً إسلامَ النشأة.
وقد جعلتَ هذا الإسلامَ دام قرناً ونصف القرن، وقسمتَ تلك المدة قسميْن. وبرهنتَ على ذلك أحسنَ بُرهان. وأقنعتَ بفضل الكلمة والصورة والنقوش والحفريات. وأقمتَ على رأس هذا الإسلام شخصاً جاهليا معروفاً هو محمّد بن عبد الله، وذهبتَ إلى إنّه يُمكن، لو لا بعض الحرج، أنْ نسمّي هذا الإسلام إسلامَ محمّد. وقد نختلف في المدّة التي جعلتَ هذا الإسلامَ دام، وفي جعل الامبراطورية الأموية طرفاً فيها، وفي جعل محمّد فاعلاً وواقعاً وتاريخاً، ولكنّا نعتقد في وجود إسلام النشأة المفقود، ونذهب في التمييز إلى حدّ القول بأنّ الإسلام الذي نعرف وإسلام النشأة المفقود إسلامان لا رابط بينهما غير الاسم والله والنبي وما عدا ذلك فاختلاف جوهري يقوم بين إسلامين، إسلام الصفاء الأوّل أو الأورتودكسية، وهو إسلام النشأة المفقود، وإسلام الناس الذين ركبوه، وهو الإسلام الاجتماعيّ.
وقد جعلتَ إسلامَ محمّد يتواصل إلى أن اضطلعت الامبراطورية الأموية، التي سمّيتها امبريالية، بخلافة الامبراطورية الرومانية، التي سمّيتها امبريالية أيضاً. ولك في ذلك براهينُك والحُجج. وقد جعلتَ محمدَ بنَ عبد الله والأمويين في عالم واحد قوامُه السياسةُ وإقامةُ الدولة الإسلامية. فجمعتَ بين ما كان ميثا وأسطورة وما كان حقيقة وتاريخاً. رفعتَ عن محمّد بنِ عبد الله صفةَ النذير الذي ابتدعها، ونصّبتَه فاعلاً في السياسة وبناء الدولة، ووثقتَ في كتب التاريخ والسيرة، ورسمتَ له منها مساراً واقعيًّا حقيقيًّا تاريخيًّا، ورفعتَ عنه ما تشكّل في المخيال عناصر ميثيّة تُؤهّله لأنّ يكون النبيّ والبطل، مثل كلّ نبيّ وكلّ بطل. رفعتَ عنه هالته المجيدة الموغلة في القدم التي صُنعتْ له خارج إطار الواقع والزمن.

وهل كان مُحمّدٌ يوماً ابنَ الواقع والزمن؟
بدا لنا أحياناً أنّ الأخبارَ التي نظنّها بنتَ التاريخ المجيد الذي نشأ في ظلّ القرنيْن الثاني والثالث الهجرييْن أنشودة ذكرى وفخر، قد استقامت عندك تاريخاً. وإنّك أكّدتَ على بُعدها التاريخيّ وطعنتَ في الذين يشكّون في ذلك التاريخ. فجعلتَ القبّةَ تُنصبُ لمحمّد لأنّ الملوكيّةَ تقتضي ذلك. وجعلتَ حقّه في النساء، وإنْ في ظلّ الممنوع والمحظور عند العرب، صورةً لتلك الملوكية الناشئة. واستعنتَ بالشعر تستقرئه الخبرَ الجميل، فمدّك بالخبر الجميل. والشعر كان أعذبه أكذبه. وكذلك كان أجمله. ولعلّ ذلك الشعر كلّه قد أسلم، وصار نَحلاً، وصار لحناً.
ثمّ جعلتَ هذا الإسلامَ تَطوّراً للوثنية العربية الجاهليّة، وقطعتَ عنه الصِلةَ بالمحضن السامي الذي تشكّلت في إطاره اليهودية والنصرانيّة. فجاء مُنبتًّا. وكأنّ خُصوصيّتَه رَبطتْه بالوثنيّة الجاهلية حتى ضاقتْ عنه السبلُ ليتنفّسَ توحيداً يهوديًّا أو نصرانيًّا وإنْ في ظلّ التثليث والولادة العَجب. وكأنّه كان جاهلاً بتعاليم اليهود والنصارى يومها. قطعتَ له صلةً ربطها بالحبشة حيث النصارى، وصلةً أخرى ربطها بيثرب وخيبر حيث اليهود. لم تُصدّق الأخبار في كتب السيرة والتاريخ في هذا المجال، وقد صدّقتها في غير ذلك من الأخبار، ورأيتَ ألاّ موجب للشكّ فيها.
ثمّ جعلتَ الله نَسيجَ وحده. قد انبعثَ من حضن العدم. لا علاقةَ له بالآلهة الأوثان وإنْ نشأ في ظلّها وتطوّر، وقد يكون شقّ طريقه بينها. وقرّبتَه من الرحمان الذي هو في حدّ ذاته إشكالٌ، أكبرُ من الله الإشكال. وفصلتَه عن الآلهات اللائي جُعلنَ له بناتاً، اللات والعزّى ومناة الثالثة الأخرى. ورفضتَ أنْ تكون اللاتُ مشتقّة تأنيثاً من الله أو أنْ يكون الله مشتقًّا تذكيراً من اللات. أسقطتَ قصصَنا الجميلة. أسقطتَ اللاتَ والعزى ومناةَ الثالثة الأخرى. أسقطتَ الآيات الشيطانية بالكلّية. أسقطتَ الذي قد يكون كان للآلهة جميعاً أصلاً. فلِمَ أسقطتَ آلهتَنا يا عزيزُ؟ ولِمَ أسقطتَ ثقافتَنا بالكلّية؟
الآن وقد رجعتَ حيثُ أنتَ، نتكلّمُ فيك بحرّية. نحنُ لا نُقوّمُ أو نُقيّمُ الكتابَ وما قلتَ. فالكتابُ وما قلتَ علمٌ له في باب العلم مكانة تَميّزَ بها، بفضل جدّته والطرافة والاطلاع الواسع والتفكير المعمّق. نحن نرسمُ هنا علاقةً خفيّةً لكلّ ذلك بنا. فكانت علاقة قائمة على التقابل الذي ينبشُ طرفُه في النصوص، يبحثُ فيها عمّا يستقيم تاريخاً، وينبشُ طرفُه الآخر في نفس تلكم النصوص، يبحثُ فيها عمّا يستقيم قصّةً جميلةً وأنشودةً من أناشيد الحياة التي تشكّلت في عالم الناس أسطورةً أو ميثا. وقد بدا لنا إسلام النشأة المفقود، كالعقد الفريد الذي نظنّه قد زيّن جيداً فريداً وضَيّعتْه ذاتُ ذاك الجيد. وتفرّقتْ حبّات العقد في كلّ سكّة وطريق. وكلّما عثرنا على حبّة تساءلنا عن موقعها من الحبّات، وعن مكانها من الجيد. ونظّرنا لذلك، دون أنْ يغيب عنّا الجيد الذي هو في الواقع غايتُنا وهدفُنا. نريد أنْ نعرف الجيدَ وصاحبةَ الجيد. ولكن، أوُجدتْ فعلاً صاحبةُ ذاك الجيد؟ نريد أنْ نعرف الأصول. أكانت فعلاً هناك أصول؟ أم هو حلمنا الذي يُراودنا مدى الدهر حتى صار هوساً فينا لا يزول؟
رسمتَ للإسلام قصّةً جَميلةً في النشأة والميلاد، والإسلام صار إسلامَ عنف وإرهاب، إسلامَ مليارين من العباد، يعيشون العبوديّة والذلّ، يعيشون الجهل والفقر وأمراض العصور الغابرة، يعيشون على هامش العصر، لا تَجذّرَ لهم في العصر، يأتمرون بأمر شرذمة من الأعراب، يؤجّجون فيهم الحقد والصراع والفتنة والقتال، وتعجّ منهم رائحة النفط العَفن في الطبيعة الظالمة.
نقول في الختام، بلا رقيب: كلّه إسلام، كلّه من الإسلام.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115