في بعض شؤون الثقافة اللغةُ ذلك الأصلُ الثابتُ... في ذكرى وفاة الأستاذ عبد القادر المهيري

وحيد السعفي
نظمّت كلّية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة تونس يوميْ 15 و16 أفريل 2019 ملتقى إحياءً للذكرى

الثالثة لوفاة الأستاذ عبد القادر المهيري، وننشر فيما يلي مختصراً للنصّ الذي قدّمناه بهذه المناسبة إهداءً له:

نَحنُ صُورةٌ للّغة العربيّة التي نُدرّسُ. لغة يَغلبُ عليها القِدَمُ والتوحّشُ ويُثقلُ كاهلَها الدينُ القديمُ المتوحّشُ. طوّعتْ الناسَ وصاغتْهم على مَقاسها وجَعلتْهم يَعيشون الماضي الذي لا سبيلَ إلى التخلّيّ عنه. وتَشكّلت ماضيا يُحيى لا شاهدَ عليه إلاّ من الشعر الجاهليّ الذي تَجرّد من جاهليته وأسلم وكان نَحْلاً، ومن المعاجم التي وُضعَ أحدثُها في القرن السابع الهجريّ، ومن القرآن الذي أصابه الختْمُ مُنذُ النشأة، ومن العلوم التي تَدور في مَداره وأصابها الختْمُ أيضاً. كلّها مَعرفةٌ قديمةٌ ماضيةٌ، لا تطوّرَ لها، ولا تَجذّرَ لها في العصر.

فقد نشأت العلومُ في اللغة والمعارفُ في ظلّ القرآن الذي نزل من السماء، وقاله الله، ونزلَ به المَلَكُ على قلب مُحمّدٍ النبيّ. والسماءُ واللهُ والنبيُّ مُفترضاتٌ لا بُرهان عليها إلاّ من ذاتها، لا بُرهانَ عليها إلاّ من عالمِ الإيمان. وفي ظلّ تلك المُفتَرضاتِ بَرزَ مُصطلحُ الإعجاز فكرّسَ عَجزَ الإنسان عن بلوغ أرقى الإبداع. كما نشأت تلك العلومُ والمعارفُ أيضاً، في ظلّ الشعر الجاهلي الذي تقوم على أمره أسماءٌ تنتمي إلى عالَم العجيب والغريب. فالشنفرى وتأبّط شرًّا والسُّليكُ بنُ السُّلَكَة وكذلك عُروةُ بنُ الورد وعَنترةُ وطَرفةُ وامرؤُ القيس وديكُ الجنّ من بعد، أسماءٌ توحي بأنّها هَواتفُ في الصحراء أو شخصياتٌ خارجةٌ من الأدغال أو من عوالمِ الغيلان والجنّ. فتشكّلُ الكلامُ الجميلُ كلاماً من عالم الغيب حيثُ الملائكةُ أو الجنُّ أو الشياطينُ، أو من عالم المخيال حيث الغيلانُ وصَعاليكُ العرب والشعراءُ الذين لا علاقةَ لهم بالبشر. وجاء التعليمُ ضرباً من المجاز، وضرباً من ضروب المخيال، والواقعُ غائبٌ أو كالغائب.

ثمّ نَتّهم الطلبة بجهل اللغة، ونتحسّرُ على الماضي الذي كنّا فيه عُلماء، نُتقنُ العربيّةَ والشعرَ والقرآنَ وما تأتّى، كأنّنا كنّا شياطينَ أو جنًّا أو ملائكةً أو صَعاليكَ آخر الزمان. ونحنُ يَنخرُ فينا القِدَمُ والتوحّشُ والدينُ الذي لا يَتطوّر، نعودُ بالمقولة إلى أصل مُتوهَّمٍ، نَظنّه الأصلَ، ولا أصلَ. نَخافُ على العربيّة الاندثارَ، نَخافُ على الإسلام، نَخافُ الحداثةَ، نَخافُ العصرَ، نَخافُ النورَ، نَلوذُ بظُلمة القرون الأولى، ساعَةَ كان الإنسانُ حيواناً أو كالحيوان، رَعيّةً من رعايا مولانا السلطان، يُجلَدُ وتُقطعُ يَدُه، ويُشوى في النار، ويُعلّقُ في الرحبة من ساقه كالشاة. نَلوذُ بظُلمة القرون الأولى، ساعةَ كان الشاعرُ يَصفُ ناقتَه تظنّه يتغزّلُ بحبيبته وإذا ما تَغزّل بحبيبته جاء وَصفُها وَصفَ فَرسٍ أو ناقة.

نحنُ نُعلّمُ لغةً من حُوشيّ الكلام ووحشيّه، لغةً تَدورُ على نَفسها، فيها شيءٌ من شَقشقةِ اللّسان، وفيها تَقوقعٌ في الصَّدَفَة وانطواءٌ، فيها إيقاعٌ ووزنٌ فتَسمعْ خُفَّ البعير في الرمل، وتَسمعْ حافرَ الفرس في الصخر، شعرُها طَرقٌ بالمطرقة على السندان، ونثرُها سجعٌ كسَجع الكُهّان.

ولمّا سَعت اللغةُ العربيّةُ إلى تجديد نفسها بالإفادة من اللسانيّات الحديثة، حَبَسْناها في لغة الجَفاف بدعوى الاصطلاح. انظر نُصوصَ اللسانيات في اللغة العربيّة تَرَ الصعوبةَ واللفَّ والدورانَ والتعتيمَ حتى لا تفهمَ. وتتساءلُ إذا كان واضعُ النصّ فاهماً؟ كلّها نصوص في التعريب ومُحاولاتٌ لإيجادِ المُعادلِ في اللفظ والمُعادلِ في العبارة. والمعادلُ لقيطٌ مُنبتٌّ، ليس هو الأصلُ. فجاءت اللسانيات العربيّة صدًى سيّئاً لغيرها، لا تنظيراً مُحكماً للتفكير في الاشتقاق أو النحو أو الصرف أو التركيب أو حتى المعنى.

نَحن نتاجُ اللُّغة العربيّة، لغة الاكتفاء بالذات، تُعلّمنا أنّها خيرُ اللغات، فنكتفي بها، فأصابنا الإفلاسُ. تُعلّمنا أنّها لغةُ القرآن، فنتشبّث بالقرآن، ونَدورُ في مَدار اللغة، تَحبِسُنا في القرآن، تَحبِسُنا في الدين، نَظنُّ دينَنا خيرَ الأديان، نَجهلُ الأديانَ، نثورُ على الأديان، نثورُ على الإنسان إذا ما حاولَ الخروجَ، وإنْ بالتأويل، عن القرآن. كذلك يُصبحُ الجهلُ عُنفاً وإرهاباً.
نحنُ نُعلّمُ العنفَ والإرهابَ.

نحنُ نُعلّمُ خطاباً مُضادًّا لخطاب حقوق الإنسان، فنعامل الجَمعَ غيرَ العاقل، الحيوانَ والطيرَ والجمادَ وما تأتّى من الأشياء، مُعاملَةَ الأنثى، مُعاملة المفرد المؤنّث بلغة العلم الباقية، ونقول إنّ امرأتنا كانت أحسن النساء، ناقصةَ عقل ودين ونرفع عليها الذكر ونجعلُ حظّهُ مثلَ حظّ الأنثييْن. جاء ذلك في القرآن، ومنْ يُخالف القرآن؟ ونُنظّرُ ما شئنا التنظير للعدل والمساواة والحضارة السمحة والوسطيّة في الدين والمالكيّة التي لا تعرف التطرّف. ماذا نَفعل يا تُرى؟ نُشرّعُ للغة الظالمة. نُشرّعُ للدين.

نحنُ نُعلّمُ أنّ الأشياءَ لا تُحبُّ التغيير لأنّها أصلٌ ثابتٌ. وقد نَظّرَ المُنظّرون أنّ عُضواً مثلا لا تقبل التأنيث. لأنّ العضوَ من أعضاء الإنسان كالساق أو الذراع. فجاءت السيدة العضوُ في اللجان، لا حقّ لها في التأنيث ولا حقَّ لها في التمتّع في أنْ تكون امرأة. ثمّ سحبوا ذلك على السيدة النائب في مجلس نوّاب الشعب، وعلى السيدة الوالي في حظيرة الوُلاة، لأسباب واهية لا تستقيم.

هل يُمكنُ أنْ نُحدّثَ الفكرَ في ظلّ الثبات والقرار؟ هل يُمكنُ إتيانُ خطابٍ آخرَ والخطابُ لغةٌ، هي لُغةُ القرآن، أو لغةُ علوم الدين، والقرآن عالمٌ مَختومٌ وكذلك علومُ الدين؟

وكنتُ أسأل الأستاذَ عبد القادر المهيري، رأسَ اللغةِ والنحوِ والبيان. أسأله ببراءة لماذا جمعُ غيرِ العاقل يُعامَلُ مُعاملةَ المؤنّث؟ ما الحكمةُ من وراء ذلك؟ أسأله لماذا يَستعملُ القرآنُ المكّي النبيين جمعاً للنبيّ، في حين يَستعملُ القرآنُ المدنيّ الأنبياءَ جمعاً للنبي؟ لماذا كان سالماً ثمّ أصبح تَكسيراً؟ هل ساعةَ تَغيّرَ الفضاءُ تَغيّرت اللغة؟ ألِمكّةَ لغةٌ وللمدينة لغةٌ أخرى؟ أم تَغيّرَ الاستعمالُ في ظرف عشرٍ من السنين؟ هل إنّ النبيين قياسٌ على النبييم في العبريّة عند اليهود، تبنّاها القرآنُ لمّا كان يَقصُّ قصص اليهود، وكان تَبعاً للعهد القديم؟ ولمّا استقلّ في المدينة وطرد اليهود وبدّل القبلة استقامت اللغة فُصحى بفضل جمعها التكسير؟ أم هو الله القائلُ يَعرفُ كلّ شيء، يتكلّم مثل ما يشاء فيستعمل هذا الجمعَ أو ذاك متى شاء؟

كنتُ الأعمى يسأل. ولا عَبَسَ الأستاذ عبد القادر المهيري ولا تولّى إذ جاءَه الأعمى يَسأل. أظنّه كان يَخرجُ عن جِدّه الساكنِ وَجهَهُ، ويَرتسم على مُحيّاهُ شيءٌ كالتبسُّمة أو كالضحك الذي يَكتُمه. أظنّه كان يجد في السؤال الفَكهَ والطرفة. أظنّه كان يُحبُّ الفَكهَ والطرفة دون أنْ يتخلّى عن جدِّه الذي كان فيه طبيعةً وفطرةً، والعقلِ الذي كان يُميّزه.

كان الأستاذ عبد القادر المهيري نَسيجَ وَحْدِه، لا نَظيرَ له ولا مثيلَ. ساءلَ اللغة بفنٍّ يبحثُ فيها عن بعض الأجوبة التي تتكتّم عليها بحذق. والنحوُ كان سَبيلَه إلى السؤال. النحوُ بوصفه فنَّ القول. والنحوُ بوصفه فضاءً يَحتوي أسُسَ ذلك الفنّ والقواعدَ. لم يكنْ نحوُه في كتب النحو المدرسيّة وفي أعماله الجامعيّة سعياً إلى تبيان قواعد الكلام الجميل والشعر والقرآن، بل كان تقريباً للقاعدة من المتعلّمين، والمتعلّمون لا يَجبُ أنْ يُعاملوا مُعاملةَ الشعراءِ والبلاغيّين أو الخُطباءِ، لا يَجبُ أنْ نُعدَّهم للمناظرة في الشعر أو المناظرة في الخطبة. هم مُجرّدُ مُتعلّمين.

كان الأستاذُ عبد القادر المهيري يبحثُ عن تَجاوزِ ما حبس الناس في فنّ القول الجميل والشعر الذي فيه هاتفٌ والقرآن الذي تشكّل آخرَ. وفنّ القول الجميل استثناءٌ لا قاعدة، لا يدخلُ في باب التواصل بين الناس، بل يرسم معالمَ الشاذّ النادر، يرسم ما يَخرج أحياناً عن قواعد الكلام التواصل، ليتشكّل ثقافةً راقيةً، ليست ثقافةَ الناس. فكانت المُؤسّسَة التي بنى في النحو تَجديداً في مستوى دراسة النحو، فغيّرت تَغييراً واضحاً دراسةَ النحو. كان النحوُ عنده درساً على علاقة بالعقل يحتوي الأسسَ في فنّ القول، وكان تفسيراً جليًّا واضحاً.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115