هدم «شعار البايات» على واجهة بيت الحكمة: ما بين تجنّي التهشيم وضرورة الترميم

إذا كانت الآثار هي الأثر الباقي من الحضارات الغابرة والشواهد الحية على الماضي البعيد... فلاشك أنها الذاكرة والهوية،

الجذور والتاريخ. ولهذا فإن كل تشويه لها مرفوض وكل مساس منها هو جريمة لا تغتفر!  ولعلّ ذلك يفسر حملة التنديد الواسعة التي رافقت هدم «شعار البايات» يوم أمس من واجهة المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون «بيت الحكمة». فما أصل الحكاية؟
وسط موجة استياء عارمة، كان تناقل صورة واجهة بيت الحكمة بسرعة فائقة وبوتيرة متصاعدة وقد طالت معاول الهدم شعار البايات أعلاها... مما خلّف تساؤلات واستفهامات تبحث عن إجابات شافية حول حقيقة ما حدث !

«الهدم ضرورة وليس خيارا»
قبل يوم واحد من الاحتفال بعيد الاستقلال الوطني ، لم يكن انتشار صورة تهديم شعار الدولة الحسينية في فترة البايات على الواجهة الأمامية لبيت الحكمة مرفوقا فقط بتعليقات إدانة واتهام بالتقصير بل جاء مغلفا بتأويلات إيديولوجية وخلفيات سياسية من قبيل: « الرغبة الدفينة في محو أثر البايات بسبب عداء مؤسس الدولة الحديثة لهم...».
وفي سعي إلى تبيّن خيط الحقيقة من مجاز التأويل، اتصلت «المغرب» بإدارة المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون، فكانت الإجابة على لسان مدير المصالح المشتركة معز الحميدي كما يلي: «في ظل ظهور مؤشرات منذ مدة طويلة على تداعي واجهة بيت الحكمة للسقوط ، كنا أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما الانطلاق بصفة فورية في أشغال الترميم وإما

الوقوف وقفة المتفرج إلى حين حدوث ما لا تحمد عقباه ! طبعا اخترنا التدخل قبل فوات الأوان، فاستعنا بالخبراء والمختصين واستشرنا المعهد الوطني للتراث... فكانت كل التقارير تفيد بضرورة الترميم لأن في الأمر خطورة على سلامة موظفي بيت الحكمة والرواد والضيوف... ودون الدخول في التفاصيل التقنية الدقيقة، فإن الواجهة المصنوعة من مادة الجبس لا تستجيب لمحاولة الإصلاح دون التدخل بالهدم. ولكنها ستعود كما كانت عليه بعد حوالي 10 أيام من انطلاق أشغال التهيئة والترميم. وقد زارنا أبناء البايات واطلعوا على الأشغال على عين المكان وتفهموا حقيقة الأمر بعيدا عن صيحات المبالغة والتهويل».
وقد حاولت «المغرب» الاتصال بالمعهد الوطني للتراث لتوضيح سبب هدم شعار البايات على واجهة بيت الحكمة ومدى قانونية هذا الإجراء... ولكن لا من مجيب!

وقد أصدر المعهد الوطني للتراث عشية أمس بلاغا توضيحيا جاء فيه ما يلي :» تبعا لما جدّ صباح الثلاثاء 19 مارس 2019 من تهشيم جزء من الجبهة الفوقيّة للواجهة الرئيسيّة لمؤسسة المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون» بيت الحكمة» بقرطاج، يهمّ المعهد الوطني للتراث توضيح أن عملية الهدم تمّت هذا الصباح من طرف مقاول مكلّف من ادارة بيت الحكمة دون علم أو ترخيص مسبق من قبل المعهد الوطني للتراث. وقد وقع اتخاذ قرار فوري بإيقاف الأشغال. وسيتولى المعهد الوطني للتراث في أقرب الآجال إعادة الواجهة إلى ما كانت عليه سيّما وأن أجزاء عديدة من الجبهة وقعت المحافظة عليها».

قصر زرّوق مصدر قرارات ثورية في تاريخ تونس
ليس «بيت الحكمة» مجرد منارة للعلوم والآداب والفنون وهو الذي يعرف نشاطا مكثفا في الاحتفاء بتجليات الفكر والإبداع ويحصد صدى طيبا برئاسة الدكتور عبد المجيد الشرفي، وأيضا ليس فقط تحفة معمارية وأثرية بل هو كذلك القصر المهم في خط قرارات مفصلية في تاريخ البلاد التونسية... فمن هذا القصر أعلن رئيس الحكومة الفرنسية «بيار منداس فرانس» رسميا، في 31 جويلية 1954 حق تونس في الحكم الذاتي. وفيه أيضا تم توقيع مجلة الأحوال الشخصية بتاريخ 13 أوت 1956 وتجسيم قيم الجمهورية في 25 جويلية 1957.

واعتمادا على معطيات المراجع التاريخية، فقد تم تشييد القصر الذي يأوي حاليا بيت الحكمة في أواسط القرن التاسع عشر، وكان يعرف في عهد البايات الحسينيين بقصر زرّوق. وقد بناه الجنرال أحمد زرّوق صهر علي باي وزير الحرب، واتخذه مقرا لإقامته الخاصة. ولقد ذكر المؤرخ احمد ابن أبي الضياف في رسائله إلى خير الدين «أن محمد باي أقطع أرضا بها مخازن وبئر لأمير اللواء سيدي احمد زرّوق قرب سانية سيدي الأمين شقيق أحمد باشا وحرضه على بناء برج بها».

وكان أحمد زرّوق قد كلف بقمع حركة التمرد التي اندلعت في الساحل ضد الإصلاحات الجديدة وضد الترفيع في المجبى، فأدى المهمة بمنتهى الشدة والقسوة.وبعد وفاته سنة 1889 فرط ابن أحمد زرّوق في الثروة وباع القصر، فاشتراه حيّ بسيّس. واحتضن القصر عدة استقبالات رسمية لمجلسي الشيوخ والنواب.
وفي سنة 1922 اقتنى محمد الحبيب باي قصر زرّوق وخلّفه لابنه محمد الأمين باي آخر البايات الحسينيين. فأدخل عليه بعض التحسينات ، إذ بنى سقفا فوق الصحن الداخلي الذي كان من قبل مكشوفا، وجدّد واجهة القصر ومدخله وزينهما بمشربية وبشعار البايات وأعاد تزويق السقوف. كما أضاف في الحدائق المجاورة بناءات لسكنى أسرته وأتباعه. وحوّل قاعة العرش من الطابق العلوي إلى الطابق السفلي مخالفا بذلك سنة الحسينيين.

بعد الاستقلال صار هذا القصر ملكا للدولة التونسية فاتخذ مقرا للديوان الوطني للصناعات التقليدية ثم المعهد القومي للآثار واتخذ سنة 1983 مقرا للمؤسسة الوطنية للترجمة والتحقيق والدراسات «بيت الحكمة» التي أصبحت منذ سنة 1992 المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115